شعار قسم مدونات

إشكالية سؤال العمل في المؤسسات النسائيّة

blogs - women
لم يكن "العمالقة الجبارون" الذين أفنى دون كيشوت جهده لقتالهم إلا خيالا ‏وطواحين هواء، هذه المعارك الهوائية التي خاضها كيشوت داخليا ‏واستنزف بها وقته وجهده مؤمنا بحقيقتها لم تجعل منها معارك حقيقية و‏واقعية، رغم إيماننا أيضا بنُبل كيشوت وإنسانيته الحقيقية؛ ‏فإيماننا بالنبلاء وتصديقنا لأصالة جوهرهم ورؤيتنا لاحتراقهم  في معارك ‏تنفصل عن واقعها ولا تؤتي القدر الأدنى من أُكلها يؤكد أن عدالة القضية ‏وحدها ليست مؤهلا لانتصارها، فقد يحمل العمل للقضايا العادلة بذور موته ‏أو فشله على أقل تقدير، دون أن تغني عدالة القضايا عن العاملين فيها شيئا‎.‎

 

قريبا من حال دون كيشوت، ما زال العمل النسائي العربي في عمومه ‏والإسلامي منه على وجه الخصوص يعيش حرب الطواحين المتخيلة، ‏وينفصل عن الواقع عموما ومتطلبات الفتيات رعاية وعناية، خصوصا ‏بشكل بات يساهم في ازدياد تقوقع المؤسسات النسائية وتعلقها بنقاط تاريخية ‏معينة أسئلة وعملا وهواجسَ ومخرجات بالضرورة‎.‎

 

وأفرزت الثورة السورية مؤسسات نسائية لأغراض عمل متعددة في كل الأماكن التي تمركز بها السوريون داخل سوريا وخارجها، والأصل أنها جاءت استجابة عملية لتلبية حاجات ما بعد الثورة، إغاثة وتوعية وتأهيلا وتثقيفا، لكن المطلع على برامج هذه المؤسسات يجدها تفتقر إلى القدرة على مواكبة لحظة الثورة واحتياجاتها بأدنى قدر مطلوب، مهما ادعت غير ذلك.  

ما زالت المؤسسات النسائية في أغلبها منهمكة بما يسمى "دورات الأعمال ‏اليدوية" الطبخ وصناعة الصوف والخياطة و..، أو "دورات دينية" تقوم ‏على تحفيظ القرآن وتلقين بعض من الأحاديث والسير

لا تكمن مشكلة هذه المؤسسات النسائية على اختلاف أطيافها "إغاثة، سياسة، ‏تربية، ثقافة، .." في الإجابة عن سؤال العمل، إنما بسؤال العمل نفسه، ولعل ‏ذلك راجع إلى حالة الانفصال المبطن عن الشأن والهم العامين بمعناهما ‏الحقيقيين اللذين تعيشهما – أو تُجبر عليهما – المرأة داخل المجتمع نفسه، فهي ‏أدركت أو لم تدرك تعيش حالة إقصاء وعزلة، في حين يتفرّد الرجال في ‏مجالسهم بالحديث عن القضايا الكبرى التي تسيطر على لحظتنا التاريخية ‏ويتبادلون فيها الآراء والخبرات ووجهات النظر ويحتدون مدافعين عن المرأة ‏ودورها المحوري؛ المرأة التي يقصونها بالطبع، بينما تتفرد النساء ‏بأحاديث أخرى هي في الأصل على صلة بما يجري في غرف ‏الرجال المقابلة، لكنه أصل لا وجود له حقيقة إلا نادرا، مما يولّد لدى النساء ‏أسئلة مختلفة وهواجس شتّى، وبالتالي آليات عمل لا ترفد الشأن العام رفدا حقيقيا ‏وإنما صوريا، وكلمة "صوري" أو "ديكوري" هي تماما ما يعبر عن حالة ‏المرأة غالبا في الواجهات السياسية والثقافية والاجتماعية، وهي كما يُرى ‏انعكاس لحالة اجتماعية صغيرة‎.

 

ما زالت المؤسسات النسائية في أغلبها منهمكة بما يسمى "دورات الأعمال ‏اليدوية" الطبخ وصناعة الصوف والخياطة و..، أو "دورات دينية" تقوم ‏على تحفيظ القرآن وتلقين بعض من الأحاديث والسير، و"دورات ثقافية" ‏و"دوراتِ تأهيلٍ وتدريبٍ" أو إغراقٍ في "التنمية البشرية" التي صارت ‏أقرب للموضة منها للإفادة أو حتى "دوراتٍ سياسية" أشبه ما تكون – في ‏أغلبها – بـ "صبحيات النسوان"، وهي دورات على ضرورتها وأهميتها – إن أديت كما ينبغي – إلا ‏أنها يجب أن تكونَ جزءا من منظومةِ عمل متكاملة لا أن تكون وحدها بسطحيتها عماد العمل النسائي ‏ومرتكزه وغايته، مع ضرورة ترتيب الأولويات والتفريق بين الضروريّات ‏والكماليّات في الزمن الراهن، بدلا من العشوائية المفرطة والتّخبّط المهيمن ‏على المشهد.‏

 

ولم يعد الاحتجاج بقلة الحيلة المالية وتقصير الداعمين حجة مقنعة للرضى ‏بهذا الواقع المزري أو للتوقّف عن النقد اللازم، فما لا يُدرك كله لا يُترك ‏جله، وليس مطلوبا من المؤسسات أن تحمل ثقل المسؤولية كلها وتنقذ نساء ‏المجتمع من المستنقع الفكري والعملي والأخلاقي، وإنما القليل إلى القليل ‏كثير، والإتقان مع الديمومة ولو بقلّة يبلّغ الطالب غايته، مع لزوم وضوح ‏في الهدف وتحديد للمسار وتقديمٍ للأهم والأولى على سواه؛ فعلى سبيل ‏المثال:

 ‎

السكن الشبابي للفتيات في اسطنبول، يعدّ ملجأ رخيصا ماديا يأوي عددا ‏كبيرا من الفتيات العاملات والطالبات، ويسدّ ثغرةً في وجه نهر الحاجة ‏الجارف، إلّا أنه غدا في كثير من الأحيان بؤرة فساد بامتياز لما فيه من ‏نجاح فتيات لسن بالمستوى الأخلاقي والإنساني في استقطاب غيرهنّ تحت ‏عوز الحاجة والفاقة والوحدة، ففي هذه السكنات استُدرجت بعض الفتيات ‏وعملن في "الدعارة" بدافع حاجات مادية وإغراء حاصل من إحدى ‏شريكات السكن‎.‎

 

لم يكن المطلوب يوما من المؤسسات أن تنقذ كل الفتيات في كل السكنات ‏المنتشرة ههنا، لكن يكفي أن تتابع المؤسسة الواحدة سكنين أو ثلاثة لمدة ‏معينة حتى تكفي من فيه مغبّة الانحدار والعوز، أو أن تبادر مؤسسةٌ إلى ‏وضع ومتابعة برامج تأهيليّة تتشارك فيها عدة مؤسسات من مؤسساتنا ‏المنتشرة كالفطر، تعمل على نقاط معينة قابلة للتحقيق دون تكاليف باهظة ‏وبزيادة في الجهدِ الذي يؤججه التحرّق وحمل الهمّ.‏

 

وكما يحمل الرجالُ المتصدّرون للشأن العام مسؤوليّة كبيرة في إقصاء ‏النّساء إقصاء حقيقيا من خلال التفضّل عليهنّ بالإشراك الديكوريّ في ‏العمل؛ إلّا أن المسؤوليّة الكبرى تتحمّلها المرأة نفسها، فقد قالت العرب: ‏‏"أنت حيثُ تضع نفسك"، وقد عوّدتنا الأيام والثورات أن الحقوق في ‏المجالات كلّها لا تعطى بل تُنتزع انتزاعا، وإذا لم تستطع المرأة أن تحلل مشكلتها إلى أجزائها البسيطة وتعيها فلن تستطيع الوصول إلى حلّها، والانطلاق إلى ‏وجودٍ حقيقي مؤثّر بالقدر الباقي والكافي والرافد للهموم العامة الحقيقية، وربما أيضا لن تصل إلى ما ينبغي الوصول إليه من إشكالية سؤال العمل الواقعي لا المتخيل والمثالي.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.