شعار قسم مدونات

مصير المنطقة وبداية النهاية

blogs إيران
لا شك في أن توالي الصدمات والظلم الذي عانته أجيال تعاقبت على المنطقة منذ إعلان قيام الكيان الإسرائيلي إلى اليوم أسهم في إفساد العقل العربي، فأصبحت الموضوعية بعيدة كل البعد عن البصائر، وقادت العواطف والانفعالات النواصي، مما أدى إلى سقوط المنطقة بغلو فكري كانت ثمرته تحطيم البوصلة وتشتيت الجهود. السياسة ساحة خالية من العواطف، تختبئ الحقيقة فيها بالمنطقة الرمادية، فقبل الصدام المباشر أو الحرب بين أي دولتين لا يكون هنالك عداء تام، فلا بد من وجود بعض المصالح المشتركة والتنسيق المباشر أو غير المباشر، ففي النهاية هم يتشاركون نفس الكوكب.
 
إن أي طرف يلعب بساحة السياسة فهو إما تابع أو متبوع، فأما المتبوع فيريد تسخير التابع لصالحه كي يزداد قوة وهو حريص في الوقت  نفسه أن لا يشكل هذا التابع مصدر تهديد له، وأما التابع فهو ينقسم إلى صنفين: الأول، مستسلم لقدره، قد غدا في حالة موت بطيء. أما الثاني فلديه بعض الخيارات: إما أن يتربص بمتبوعه متتبعا زلّاته فيتسلل منها إلى ما يمده من قوة تعينه على تحطيم قيوده، أو أن يظلم تابعين مثله فيصعد على ظهورهم، أو أن يحاول استمداد قوته من الداخل مستعينا بالعدل ومنظومة أخلاقية.
 
كانت إيران وما زالت حديث الشارع ما بين أنها عميلة للغرب تنفذ مصالحه الخاصة، أو أنها المخلص الذي سينفذ "الانتقام المنشود". وحقيقة الأمر، لا هذا ولا ذاك. إذ إننا لو جئنا لنسقط أيا من الاحتمالين على ما يحدث على الأرض من وقائع لكانت الحقيقة التي هي أساس مخرجنا، أبعد ما يكون عنا.
هل حارب حزب الله إسرائيل فعلا، أم أنها كانت مجرد تمثيلية؟ يعني أن يقوم حزب الله بتقديم قومه قرابين على مذبح الصهيونية. من يسمع هذا الكلام يظن أن الدول العربية قد نصبت أسلحتها تجاه إسرائيل لكنها وقعت ضحية هذه التمثيلية. ما الداعي للتضحية بالأرواح والبنية التحتية والعرب أصلا في سبات عميق؟! في ظل كثرة الأجندات الإعلامية، هل فعلا يقوم حزب الله وفريق الممانعة بقتل المدنيين عبر عمليات تطهير طائفي؟
 

كان الخطأ الاستراتيجي الأكبر للخميني هو جعل إيران تتبع لرجل واحد يستمد شرعيته عبر الرب مباشرة فهو الولي الفقيه صاحب الطاعة الواجبة، مما حصر السلطة مع الوقت بيد رجال الدين!
كان الخطأ الاستراتيجي الأكبر للخميني هو جعل إيران تتبع لرجل واحد يستمد شرعيته عبر الرب مباشرة فهو الولي الفقيه صاحب الطاعة الواجبة، مما حصر السلطة مع الوقت بيد رجال الدين!
 

إن سؤالا مثل هذا لا يعدو سوى طريقة خبيثة يستخدها القتلة لشرعنة بقائهم. فلو سألنا أحد الممانعين، هل يوجد دولة اسمها أرجنتين؟ فسيقول طبعا، كيف عرفت؟ فيجيب الكل يعرف وموقعها في أمريكا الجنوبية وموجودة على الخارطة، هل زرتها يوما؟ فيقول لا، إذن هذه الدولة ليست موجودة وتم وضعها على الخارطة من قبل الغرب. هذا هو الحال مع هؤلاء.

  
إن أصل ومصدر الخبر قبل أن يظهر عبر وسائل الإعلام هو الأرض والشهود، وليس من الصعب لكل باحث عن الحقيقة مجالسة هؤلاء الشهود الذين أصبحوا في كل مكان، فإذا كان مئات آلاف الأشخاص يروون نفس الخبر أو القصة بتفاصيلها الحرفية من أحداث وتوقيت وصفة لطبيعة مكان وشخوص، بينما جميع قصصهم لا تتعارض بل يكمل بعضها البعض، فهذا دليل قطعي أن روايتهم صحيحة. وهذه فلسفة وسائل الإعلام الصادقة في اعتماد الخبر.
  
كيف يتفق أن يقتل الممانعون الأطفال في سوريا ويقاتلون في الوقت نفسه إسرائيل في الجنوب اللبناني وعبر دعم المقاومة في غزة بالسلاح؟ وكيف تنهب وتقمع إيران شعبها ويكون مصير كثير من المعتدلين الأسر أو القبر، بينما تعد الفلسطينيين بالتحرر من الاحتلال الإسرائيلي؟ الجواب على هذا السؤال ليس بذلك التعقيد، لكن لا شك أنه يجب علينا الخوض بالعديد من القضايا لنصل إلى جواب منطقي قطعي، كما سيتبين لاحقا. لم يعد يخفى على أحد أن حزب الله يأخذ تمويله كليا من إيران، فلم يجد حسن نصر الله غضاضة من الاعتراف بذلك بملء فيه. إذا لا بد لنا أن نسبر أغوار السياسة الإيرانية، وتاريخ هذه الدولة التي باتت اليوم تدير حزب الله.
  

كان الخميني صاحب طموح وعجلة يريد أن يستمد قوته بمحاولة إحياء أمجاد دولة فارس وإعطائها صبغة دينية، مما سيولد زخما ويطيل عمر هذه الدولة الوليدة

دفع الشعب الإيراني ثمنا باهظا إثر القمع والفساد الذي أهلك به شاه إيران البلاد والعباد، فالرجل الذي وضعته المخابرات الامريكية البرطانية كرئيس بعد أن أطاحت بوالده كي يقوم بصد التقدم الشيوعي في المنطقة، كان يقوم بوظيفته على أكمل وجه، لكن نزعته الإقصائية جعلت حكمه في مهب الريح، فقدم الشعب وقتها آلاف القتلى من العزّل لإسقاط هذا النظام الوحشي في ثورة كانت مفاتحيها الفقر والظلم. استطاع رجل الدين الخميني خلال الثورة الإيرانية استيعاب جميع الأطياف السياسية من ليبراليين ويساريين وغيرهم، فكان فكر الخميني وقتها موفقا في هذا الجانب، إذ إن هذا الخيار كان الأنسب لامتصاص الألم وتقديم الأمل للشعب.

  

تصدر الخميني -أحد منظري المذهب الإثني عشري- المشهد، وبدأ بتأسيس دولة ذات سياسة مختلفة عن سابقتها. كان الخطأ الاستراتيجي الأكبر للخميني هو جعل هذه الدول تتبع لرجل واحد يستمد شرعيته عبر الرب مباشرة فهو الولي الفقيه صاحب الطاعة الواجبة، مما حصر السلطة مع الوقت بيد رجال الدين. وبسبب قدرة الخميني على الإطاحة بمن ظلم الشعب الإيراني وحنكته بإدارة الثورة، وقع في قلب الشعب الإيراني أن هذا هو الرجل المنشود وسر التقدم والوجود، فالشعب وقتها كان ذا اتصال سطحي بالتدين. ولم يكن من الصعب وضع المسألة فقهيا بين أيدي رجال الدين، إذ إن المذهب الإثني عشري هو أساس فكرة ولاية الفقيه. ولا يخفى أن رجال الدين لهم حصة الأسد في إضفاء الشرعية على أي نظام ينشد البقاء.

  
ليس من الصعب أن يعرف أي نظام ناشئ أن الحصول على دولة متكاملة المعالم في عالم القطب الأوحد يحتاج إلى اتخاذ خطوات عملية لحجز موضع قدم في عالم الوحوش هذا، وإلا فالاندثار سيكون حتما. كان الخميني صاحب طموح وعجلة يريد أن يستمد قوته بمحاولة إحياء أمجاد دولة فارس وإعطائها صبغة دينية، مما سيولد زخما ويطيل عمر هذه الدولة الوليدة.

  
اتبع نظام الملالي وما زال تكتيك الهجوم من أجل الدفاع واستعدى الجميع، فبدأ مشواره فورا بحادثة احتجاز طاقم السفارة الأمريكية في طهران، وبعد عام من حكمه دخل في حرب مع العراق، إذ كان يأمل من خلالها أن يسمح له الغرب بالحصول على بعض النفوذ في المنطقة، فلا مانع لدى الغرب من تحقيق مصالح مشتركة ما دام أن له اليد العليا ولن يلحقه أذى. فكان مقصد الغرب وقتها استنزاف إيران والعراق عبر حرب استمرت ثمان سنوات، لكن هزيمة إيران في هذه الحرب ودعم الغرب لصدام حسين وقتها، قصد بها الغرب رسالة مفادها، هذا هو حجمك الحقيقي يا إيران، تمهلي قليلا وسنردّ لك الكرّة عليهم لكن في الوقت الذي نراه نحن مناسبا. أما الرسالة لصدام فكانت، اليوم نجوت بسببنا وزدت شعبية وقوة، المرة القادمة ربما التي بعدها ستكون الضربة القاضية.
  

إن صُلب عقيدة الولايات المتحدة مبني على استعباد الدول للحفاظ على منصب الدولة المتبوعة صاحبة القطب الأوحد، كشمس يجب أن يدور الجميع في فلكها
إن صُلب عقيدة الولايات المتحدة مبني على استعباد الدول للحفاظ على منصب الدولة المتبوعة صاحبة القطب الأوحد، كشمس يجب أن يدور الجميع في فلكها
   
جاءت أحداث الحادي عشر من سبتمبر لتسهم في تسارع أحداث المنطقة. شكل الهجوم الدموي الذي شنته القاعدة صدمة أربكت المؤسسة الأمريكية برمتها. مع أن الهجوم كان متوقعا، فبالأصل كانت الإدارة الأمريكية سببا في صنع مثل هذه الحركات الراديكالية وقد سبق أن هاجمت القاعدة الولايات المتحدة غيرمرة، لكن حجم الهجوم هو الذي فاق كل التوقعات. لم يكن المحافظون الجدد وقتها بحاجة لذريعة كي يعلنوا الحرب على أفغانستان، فلم يعد خافيا كيف أن لديهم من الرشاقة والنفوذ ما يمكّنهم من القفز عن كل هذه الشكليات، وكان ذلك جليا عبر فبركتهم بطريقة غير احترافية متعمدة ذريعة احتلال العراق. فما كان دور هجمات سبتمبر سوى القيام بتعجيل تنفيذ خطة الانقضاض على المنطقة.
  
إن صُلب عقيدة الولايات المتحدة مبني على استعباد الدول للحفاظ على منصب الدولة المتبوعة صاحبة القطب الأوحد، كشمس يجب أن يدور الجميع في فلكها، فكثير منهم عليه أن يضمحل مثل نجم صغير في دورته، وآخرون عليهم البقاء في فلك بعيد، وأما القليلون فهي برضى عنهم قد جعلتهم بموقع قريب، أما إذا فكر أحدهم واقترب كثيرا بسبب طمع لا من أجل تقديم قربان، فلا بد للشمس أن تبتلعه بكبر حجمها وقوة نيرانها.
الدول اليوم تقع في ثلاثة أصناف: صنف ديمقراطي في سياسته الداخلية ودكتاتوري في الخارجية، وخير مثال على هذا الولايات المتحدة، صنف آخر غير ديمقراطي داخليا وخارجيا فهو مارق مثل إيران، وصنف ديمقراطي بعض الشيء داخليا وخارجيا. إن الصنف الأخير هو ما يثير رعب الولايات المتحدة، خصوصا إذا كان من النوع الذي يسعى لأن يكون متبوعا وليس تابعا، ليستمد بذلك قوة وعمرا مديدين، فهذا هو الإكسير الذي لا تملكه نفس الولايات المتحدة.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.