شعار قسم مدونات

لا سياسة بعد اليوم على فيسبوك!

مدونات - الفيسبوك

تقول القاعدة التسويقية: إذا كنت تحصل على سلعة دون أن تدفع مقابلها فاعلم أنك أنت السلعة. هذه القاعدة البسيطة التي أثيرت أول مرة في التسعينيات ما زالت تعكس واقع ثورة الإنترنت والتواصل الرقمي، لا سيما عندما ننظر في الخدمات الكبيرة التي تقدمها لنا محركات البحث ومواقع التواصل الاجتماعي وتطبيقات الاتصال المتلفز وكلها بالمجان، أو ربما نحن من يعتقد ذلك.

 

فنظرة سريعة إلى أصول وأرباح الشركات المشغلة لهذه الخدمات، وما تجنيه من مكاسب معلنة للجمهور مثل الإعلانات وبعض آليات التسويق المدفوعة، أو تلك التي يكتنفها الغموض حول ما يتم تمريره من معلومات المستخدمين الشخصية وعناوينهم الإلكترونية مقابل الأموال أو التسهيلات التجارية والحكومية، كل ذلك يعطينا فكرة أولية عن كوننا كمستخدمين نشكل جوهر السلع التي يتناوب على تداولها كل من مشغلي هذه التطبيقات وأصحاب العلامات التجارية والحكومات، وعلى الأرجح أجهزة المخابرات أيضا.

 

السياسات الجديدة في الفيسبوك ما هي إلا محاولة ابتزاز ناعم قد تنجو منها الشركات الكبرى القادرة على زيادة ما تخصصه من ميزانية للتسويق الإلكتروني
السياسات الجديدة في الفيسبوك ما هي إلا محاولة ابتزاز ناعم قد تنجو منها الشركات الكبرى القادرة على زيادة ما تخصصه من ميزانية للتسويق الإلكتروني
 

فيسبوك على سبيل المثال؛ ما زال يطالعنا عندما نقوم بتسجيل الدخول برسالة تقول "الخدمة مجانية، وستبقى كذلك دائما"، بينما ينتهج سياسات متدرجة لتقليص هامش الخدمات المجانية نحو الحد الأدنى، بحيث إن من يبحث عن التنافسية سيضطر للدفع. ما يهمنا هنا هو ما أعلنت عنه فيسبوك مؤخرا عن إعادة تقييمها لخوارزميات ما يظهر للمستخدمين في صفحاتهم الرئيسية، والذي عبّر عنه مارك زوكربيرغ بأنه تركيز أكبر على منشورات الأصدقاء الاجتماعية والتفاعلية، وتقليص لظهور منشورات الصفحات العامة التي تديرها علامات تجارية أو مواقع إخبارية بما في ذلك الفيديوهات القصيرة التي شجعت فيسبوك على إنشائها على مدار عامين، حتى أصبحت وصفة أساسية لكل الصفحات التي ترغب بالانتشار، سواء أكانت مقاطع إخبارية أو ترفيهية أو علمية أو وصفات طعام، وهذا التقليص قد يصل إلى حافة الـ"صفر" ظهور لدى المستخدمين مع مرور الوقت.

 

وإن كانت فيسبوك تقول إن السياسات الجديدة تهدف لتعزيز التواصل الفردي بين الأصدقاء، إلا أن هدفها هو إجبار الصفحات على دفع المال للحفاظ على جمهورها الذي اعتادت عليه بعد أن رسّخت فيسبوك نفسها كباب أول في التسويق الإلكتروني، سواء للسلع أو الخدمات أو المحتوى الإخباري والترفيهي على السواء، فهي ليست سوى محاولة ابتزاز ناعم قد تنجو منها الشركات الكبرى القادرة على زيادة ما تخصصه من ميزانية للتسويق الإلكتروني، لكنها ستعني بداية النهاية للكثير من المنصات الرقمية التي حصرت وجودها وعملها في فيسبوك، سواء أكانت تجارية يشغلها أفراد يسعون للربح البسيط، أو كانت تقدم خدمات المحتوى بمبادرات ذاتية أكثر من كونها مؤسسية.

 

التحدي الذي يفرضه فيسبوك هذه المرة يبدو مختلفا عما سبقه، إذ قد ينتهي ببعض هذه الصفحات إلى حد التصفية أو الانتقال إلى منصات رقمية أخرى مثل تويتر أو تليغرام

ويزخر الفضاء الإلكتروني العربي بالعديد من هذه المنصات لا سيما التي تقدم المحتوى الإخباري، والتي كانت وسيلة الحشد والتواصل الأولى إبان مظاهرات الربيع العربي، ومازالت حتى اليوم تحاول مواصلة دورها الإخباري والرقابي عبر سلسلة من التكيفات مع ما تمليه فيسبوك من سياسات صارمة وأحيانا متحيزة ضدها، إلى جانب ما تفرضه الأنظمة السياسية من وسائل رقابية وعقابية تضيق على حرية الرأي والتعبير فيها.

 

لكن التحدي الذي يفرضه فيسبوك هذه المرة يبدو مختلفا عما سبقه، إذ قد ينتهي ببعض هذه الصفحات إلى حد التصفية أو الانتقال إلى منصات رقمية أخرى مثل تويتر أو تليغرام، وهو تكتيك لا يبدو ذكيا في استخلاص العبر، إذ إن ما يسري اليوم على فيسبوك قد يتم اعتماد مثيله أو ما هو أسوأ منه في أية لحظة من قبل تويتر أو غيره، مما يعيدنا إلى أهمية التفكير ببدائل أخرى يمتلك فيها أصحاب المبادرة القدرة على التحكم بسياسات وقواعد النشر، وقد يكون منها العودة للخيار التقليدي المتمثل بالمواقع الإلكترونية، لكن بروح جديدة تتعاطى مع تحديات التسويق والانتشار.

 

وتطلق التغييرات الجديدة في فيسبوك جرس الإنذار أيضا في وجه المبادرات السياسية والاجتماعية التي تضع الكثير من ثقلها وأنشطتها في حملات رقمية من قبيل إطلاق الهاشتاغات أو حملات التغريد أو إنشاء مقاطع الفيديو القصيرة ونشرها، فبعيدا عن الجدل المنطقي حول نجاعة وقدرة الحملات الإلكترونية على إحداث التغيير السياسي والاجتماعي، إلا أن عصر هذه الحملات آخذ بالأفول أمام سياسات فيسبوك التي لن تترك في المستقبل القريب أي نوع من الاعتبار لما يتم تداوله عن إنجاز حملات إلكترونية أو إطلاق هاشتاغات تضامن.

 

ويبقى السؤال المشروع هنا حول إن كانت تخالط رغبات فيسبوك بالربح السريع رغبات أخرى بمحاصرة المحتوى السياسي والخبري عبر هذه المنصة، لا سيما وأن فيسبوك تورطت في السابق بالتلاعب بقائمة الأكثر تداولا أو "Facebook Trending" في الولايات المتحدة إبان حملة الانتخابات الأميركية، كما مارست إدارتها في الشرق الأوسط التمييز الواضح ضد الصفحات الإخبارية، وخصوصا الفلسطينية، واستجابت بشكل دائم لطلبات الاحتلال بإغلاقها والتضييق عليها، فهل تكون السياسات الأخيرة مصممة أيضا لمحاصرة المحتوى الإخباري الذي طالما فضح إسرائيل والأنظمة الصديقة لها في المنطقة؟!

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.