شعار قسم مدونات

فتيل التاريخ بين شعلة ابن زايد وغفلة ابن سلمان

blogs محمد بن سلمان

"نمر الصحراء" قد حان دورك لنرسلك من جديد، ولكن هذه المرة ليس لكي تحمي المدينة المنورة وتحفظ ماء وجه العثمانيين، ولكن لتزرع الفتن وتثير القلاقل بين الأتراك والعرب المسلمين حتى لا يكون لهم نفوذ ويد على من سواهم، لا تدعهم يفكروا في الوحدة، خاصة ونحن نراهم يلتفون حول قضيتهم الأم والمركزية: القدس عاصمة فلسطين.

 

هذا هو ما وراء تاريخانية فخر الدين باشا التي أججها ابن زايد، هذا هو المكر بعينه، اللعب على أوتار المشاعر ودغدغة الجدران المهترئة لعلها تسقط على من تحميهم في أعماق صراع لا تقوم لهم بعد ذلك قائمة، ووخز بالإبر في خاصرة -أقصد حاضرة- تركيا لمداواة أنفس دول الحصار والدول المطبعة بعد اللطمة التي تلقتها أمريكا وابنتها المدللة إسرائيل، والعجب كلّ العجب من خروج وجهي أمريكا وابنتها سليمين معافيين، لأن الضربة تلقتها دول التطبيع، لا أقصد: توغو وهندوراس وغواتيمالا وجزر المارشال وميكرونيزيا وناورو وبالاو التي لا حول لها ولا قوة.  
 

هذه دول لا تسمن قراراتها ولا تغني من جوع، وربما الجوع هو من دفعها إلى التسول على أعتاب الأمم المتحدة لأنه طال زمن المكافأة وصارت اللقيمات صعبة المنال بعد تولي "أبو إيفانكا" مقاليد تسيير المطعم، ورغم ثرائه الفاحش -بكل ما تحمله الكلمة من مدلولات متعددة- إلّا أنه أبدى شحا مقصودا لينال بطونا طائعة وأدمغة أفرغت من روح النّزاهة. ولكن ربما يكون لهذه الدول المتسولة ما يحفظ ماء وجهها، فيمكافيليّة ترمب الوقحة لم تترك لهم مجالا، ومفادها: "القدس عاصمة إسرائيل أو التّجويع"، فالغاية تبرّر الغاية عند كليهما.

 

غاية أمريكا الاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل وهذه هي الوسيلة الوحيدة في نظر الدّول المهترئة خزائنها لتحقيق غايتها العظمى وهي سدّ الفقر وطرد الجوع، وهذا المطلب هو نفسه وسيلة "هايلي" و"ترمب" في تحقيق تلك الغاية الّتي تسعى لتحقيقها الصّهيونيّة منذ ولدت، ما أغربها من دبلوماسيّة وما أسقطها، حقّا تصدق فيهم ماديتهم التي يخافون أفول ظلامها يوما ما بسبب نور الإسلام وطابعه الرّوحاني والقيمي البعيد عن مثل هذه الخزعبلات الهامشيّة في ديننا الحنيف.

 

يريد عبد الله بن زايد من تغريدة لم يجهد حتّى أنامله في كتابتها أن يؤجّج الأحقاد الدّفينة بين تركيا والأردن، وقد ردّ أردوغان على هذه التغريدة المرسلة لمقصد خبيث بجعبة متأجّجة ومترعة عن آخرها
يريد عبد الله بن زايد من تغريدة لم يجهد حتّى أنامله في كتابتها أن يؤجّج الأحقاد الدّفينة بين تركيا والأردن، وقد ردّ أردوغان على هذه التغريدة المرسلة لمقصد خبيث بجعبة متأجّجة ومترعة عن آخرها
 

لا يهمّنا ما في جعبة ترمب من أفكار إن كان له عقل وله منطق يفكّر به أصلا، ولا تهمّ الدّول المستجدية على أسوار مملكته، ما يلفت انتباهنا حقّا هم دعاة الحضارة المادّية المعاصرة، وقصارى ما وصلوا إليه في حضارتهم بناء أطول ناطقة بتاريخ الماسونيّة، ولكن للأسف فرعون دول التّطبيع مجرّد نكرة لا همّ له إلّا الحصول على أكبر كيس أرز ليأجر سحرته المتآمرين معه على أمن فلسطين والمتآزرين على حماية أمن بني صهيون، وأُزُرُهُمْ ساقطة دون ركبهم.

 

لا لا تخجلوا، ليس هناك ما يدعوا للخجل، فصوتكم كان لصالح: ليـ(س)ـت القدس عاصمة لإسرائيل لتحفظوا ماء وجوهكم عند طرفي القضيّة، سياسة "شدّ العصا من وسطها"، شيطنة ما بعدها شيطنة، وهل تبقّى في وجهكم مزعة صالحة لحفظ مائها الآسن. رغم ذلك لك الحقّ في استثارة التّاريخ المدفون لتأجيج الصّراعات الميّتة، أهذا ما تريده الإمارات؟

لم فخر الدّين باشا بالتّحديد وفي هذا الوقت بالضّبط، فخر الدّين باشا للانتقام من دولة تركيا راعية القمّة الإسلاميّة الّتي ربّما كانت السّبيل لجمع أغلبيّة الأصوات المساندة لقضيّتنا الجوهريّة والمحوريّة: حماية فلسطين وحماية عاصمتها القدس ومقدّساتها، فكما حمى نمر الصّحراء المدينة النّبويّة في ذلك الحين -ورعاة البهم والشّاء حينها لا يفقهون شيئا من التّاريخ ولا السّياسة- حمى أردوغان ماء وجه العرب والمسلمين بأن شحذ هممهم ودعاهم للتّوحّد على كلمة سواء.

 

وهذا أكثر ما يغيظ الأعداء والمنافقين منهم خاصّة، بالأمس القريب كانت المملكة الأردنيّة رائدة في التّطبيع مع بريطانيا ضدّ الدّولة العثمانيّة؛ ولا يخفى عليكم مظاهرة الشّريف الحسين للبريطانيّين ضدّ الخلافة العثمانيّة عامّة وضدّ فخر الدّين باشا خاصّة عند حمايته للمدينة المنوّرة آخر معاقل العثمانيّين بالمشرق التّليد.
 

غاية الشيطنة الإماراتية؛ توسيع الهوّة الأخويّة وشرخ وحدة الصّفّ، خاصّة إذا كانت هذه الوحدة على قضيّة جوهرها إسلاميّ
غاية الشيطنة الإماراتية؛ توسيع الهوّة الأخويّة وشرخ وحدة الصّفّ، خاصّة إذا كانت هذه الوحدة على قضيّة جوهرها إسلاميّ
 

وهنا مربط الفرس ومشبك الأنامل، يريد عبد الله بن زايد من تغريدة لم يجهد حتّى أنامله في كتابتها أن يؤجّج الأحقاد الدّفينة بين تركيا والأردن، وقد ردّ أردوغان على هذه التغريدة المرسلة لمقصد خبيث بجعبة متأجّجة ومترعة عن آخرها، والحمد للّه أنّ لسانه لم يجرّه إلى تقليب صفحات ذلك التّاريخ المرير والنّكبة التّي أعقبتها كلّ النّكبات. ولكن وإن سلمت الجرّة من الكسر، فإن مواقع التّواصل الاجتماعي قد ساهمت بطرف -بقصد أو بغير قصد- في تأجيج هذه النّعرات الدّفينة الّتي هي في الحقيقة تسوّد وجه الأردن المشرفة على حماية ورعاية المقدّسات المقدسيّة الآن، وهذا هو جوهر ولب الغاية الّتي أراد ابن زايد من ورائها إشعال ذلك الفتيل التّاريخي، فعودة المياه إلى مجاري الصّفاء والوحدة بين الأردن راعية المقدّسات المقدسيّة الإسلاميّة وتركيا راعية القمّة الإسلاميّة المقدسيّة أمر لا يخدم مصالح أمريكا وابنتها المدلّلة إسرائيل.
 

ووحدتهم سيل عرم يحبط كلّ شغب تشغّب به دول التّطبيع ويقودها للانزواء تحت ألوية جديدة تقودها تركيا مستلزمة بالضّرورة قطر والسّودان وكلّ الأحرار والشّرفاء، أو أنّها تخلع ربقة النّزاهة المصطنعة وتكشف عن وجهها الحقيقي وتقول بصوت واحد: "نحن مع القدس عاصمة لإسرائيل محقّة أو مبطلة" على غرار ما نادى به بلد المليون ونصف المليون شهيد في البارحة الدّنية: "نحن مع فلسطين ظالمة أو مظلومة".

 

تلك هي غاية الشيطنة الإماراتية؛ توسيع الهوّة الأخويّة وشرخ وحدة الصّفّ، خاصّة إذا كانت هذه الوحدة على قضيّة جوهرها إسلاميّ، ولكنّ الشّعوب الإسلاميّة تسقط في نظرها الإثنيّات ولا تأبه باللّهجات أو اللّغات ما دامت قضايا الإسلام هي العنوان الأبرز والعتبة الّتي سيلجون من خلالها لنصّ وحدوي متحقّق ربّما على المدى القريب في شبه خلافة إسلاميّة تعيد للأمّة عنفوانها وكلمتها السّلطويّة على الأقل في المحافل الدّوليّة الّتي لم يعد لها، بل لم يكن لها في أصل تكوينها أيّ دور في تحقيق العدالة الإنسانيّة أو إعطاء الشّعوب حقوقها في اختيار مصيرها.
 

أأنتم الّذين تقودون العالم إلى مرافئ السّلام أم تقودون دولكم إلى الهلاك وأنفسكم إلى مزابل التّاريخ؟ الإجابة سينقشها الزّمان يوما في ذاكرة التّاريخ ولن يستطيع لها ابن سلمان ولا ابن زايد تغييرا ولا تبديلا

هي عناوين فضفاضة وبرّاقة لا ولن تتحقّق، ما دامت الدّول المسيطرة على أزمّتها تملك مفاتيح الحلّ والعقد والنّقض. الحذر كلّ الحذر ممّا هو قادم فلقد تطورت وتيرة الأحداث خلال هذا العام من زيارة ترمب للمشرق الإسلامي المهترئ، منذ ذلك الحين والأزمات تفتعل وتحبك خيوطها بأيدي أغيلمة أحداث مثل محمّد بن سلمان وعبد الله بن زايد ولمّا يناهزوا الحلم السّياسي بعد أو يبلغوا الفطام في معرفة إدارة شؤونهم فضلا عن شؤون بلدانهم أو قضايا الأمّة على المستويات الإقليميّة والدّوليّة، لا شّك أنّ هذه الدّول تسعى لتقويض نفسها بنفسها، فما صنعه وسوف يصنعه رعاتها حدثاء الأسنان من حواضر راقية تكنولوجيّة ذات رفاهية وترف والّتي ستبنى في ضوء رؤية استشرافيّة، أقول سيكون ذلك ربّما -والغيب سرّ الله- أفول نجمهم المتلطّخ بكلّ جريرة وكبيرة.
 

لأنّ التّرف المصحوب بالظّلم بريد للهلاك كما بيّن لنا الله عزّ وجلّ في كتابه المجيد المحفوظ في اللّوح العتيد في غير موضع؛ فقال سبحانه وتعالى في القصص: "وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا ۖ فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَن مِّن بَعْدِهِمْ إِلَّا قَلِيلًا ۖ وَكُنَّا نَحْنُ الْوَارِثِينَ" (القصص/58)، وقال عزّ وجلّ في معرض القصّ عن الأنبياء: "وَكَمْ قَصَمْنَا مِن قَرْيَةٍ كَانَتْ ظَالِمَةً وَأَنشَأْنَا بَعْدَهَا قَوْمًا آخَرِينَ (11) فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنَا إِذَا هُم مِّنْهَا يَرْكُضُونَ (12) لَا تَرْكُضُوا وَارْجِعُوا إِلَىٰ مَا أُتْرِفْتُمْ فِيهِ وَمَسَاكِنِكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْأَلُونَ (13)" (الأنبياء/13،12،11).

تلك سنّة من سنن اللّه التّي شاهدناها في ثنايا التّاريخ الغابر المحكيّ في معجزة القرآن الخالدة، وطيّات التّاريخ الإنساني والعمراني المحكيّ في الآثار الشّاهدة، فأين تسيرون أعلى خطا أمريكا ومن شايعها، أأنتم الّذين تقودون العالم إلى مرافئ السّلام أم تقودون دولكم إلى الهلاك وأنفسكم إلى مزابل التّاريخ؟ الإجابة سينقشها الزّمان يوما في ذاكرة التّاريخ ولن يستطيع لها ابن سلمان ولا ابن زايد تغييرا ولا تبديلا، فالتّاريخ لأخذ الدّروس والعبر وليس لإشعال فتيل النّعرات وتأجيج الصّراعات والنّيل من مقدّرات الأمّة والسّطو على وحدتها بشتّى الأساليب لتقتات دول على حساب أخرى، إنّ ذلك باطل في قاموس العدالة الإلهيّة، فإمّا أن تنزعوا عن غيّكم وإمّا أن تتجرّعوا كأس الأوائل مريرة نكدة. 

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.