شعار قسم مدونات

طائرة من ورق

Blogs- read
"يوجد في الكتب روح كل الأزمنة الماضية" توماس كارليل. حملت قصتي الأولى في عمر الخامسة، كنت حينها قد تعلمت القراءة جيدا وأتقنتها، اقتنيت العشرات من القصص الملونة البديعة وبدأت رحلتي بين سطورها، أتلون من حبرها وأتنعم في أفياء جُملها وأبحر بين سطورها ويغرق قاربي الصغير على ضفاف نهايتها، فأغلق قصة ثم أركض نحو مكتبتي لأفتح أخرى وأبدأ معها نزهتي اليومية، وهكذا حتى أصبحت الكتب غذائي، أكبر فتكبر مكتبتي وتكبر أهتماماتي، أودع عاما من عمري لأطفئ شمعة عام جديد أوقد معه نيران شغفي الذي يكبر معي وأكبر به روحا وعقلا؛ شغف القراءة الذي أَسَرَ روحي طفلة فأينعت في ظلاله شابة وأزهرت فيها بساتين الحياة. 
 
تعلمت من قصص الطفولة أن الأمنيات هي بذور المستقبل فأودعت في قلبي العشرات من الأمنيات والتي باتت تزهر الآن ويثمر بعضها، تنقلت كفراشة من كتابٍ لآخر، فكنت أبصر وأسمع في ألحان الكتب والقصص والروايات أنغاما ومعزوفات وترقص الفراشة الساكنة في روحي على ألحانها ثم تعود لتكمل رحلتها إلى كتاب آخر؛ تقمصت العشرات من الشخصيات التي تسكن الكتب فكنت سندريلا الطفولة، وليلى ذات الرداء الأحمر، وابنة الملك العادل، وحفيدة الجد الفقير، وأميرة القصر الكبير، ورابونزل سيدة البرج العالي، وكنت الساحرة الطيبة والساحرة الماكرة، وبائعة الكبريت المظلومة، وعروس البحر، وتنزهت بين بساتين الكلمات وعلمت دميتي أن ترافقني في رحلة القراءة حتى أنها كادت لتنطق من شغف مرافقتي وجنون قصصي.
 
كلما أكبر عاما تمتد يداي إلى كتب أكثر عُمقا في التفكير وبلاغةً في التعبير وقوةً في السرد، حينها فتحت عيناي على روائع قصص الأنبياء، وتشربت روحي من تعاليم الصحابة والصحابيات، فأرسيت عقيدتي ومكّنت ثوابت إيماني ثم أبحرت في وقائع الكتابة البشرية لأتعرف على كبار الكتّاب والروائيين كأمثال نجيب محفوظ وغسان كنفاني ورضوى عاشور، ثم جيفري تشوسر و تشارلز ديكنز ومسرحيات شكسبير وأشعار جون ميلتون، بعدها سافرت طائرتي إلى إبداع ليو تولستوي ودوستويفسكي في أوروبا الشرقية والتي عدت بها إلى روائع فيكتورهوجو وجان جاك روسو وارنست همنجواي، صادقتهم جميعا في الفكر؛ تشابهت معهم واختلفت عنهم، تعلمت منهم وتأثرت بهم، كان كل كتاب أقرؤه نثراً كان أو شعراً ، فلسفةً أو وحياً يمثل تأشيرة عبور لي كي أجتاز به حدود معرفتي وأعبر به منحدرات جهلي إلى قمم أكثر رحباً وانفتاحاً على الشمس فأستنير بالمعرفة وأنير بها دربي.
 

لقد جبت العالم على أجنحة الكتب وحطّ بساطي السندباديّ في أزمنة مختلفة وأمكنة بعيدة. تنقلت في عواصم عريقة وتقمصت روحي حكايا القدماء و عاصرت حاضر الغرباء.
لقد جبت العالم على أجنحة الكتب وحطّ بساطي السندباديّ في أزمنة مختلفة وأمكنة بعيدة. تنقلت في عواصم عريقة وتقمصت روحي حكايا القدماء و عاصرت حاضر الغرباء.
 

اختياراتي كانت تدفعني نحو القراءة عما يختلف عني، لم أرغب في معرفة نفسي حينها بقدر ما كنت منهمكة في البحث عما يفعله الآخرون ويفكر به الغير، كيف تعيش الشعوب المترامية الفكر هنا وهناك، كيف يحلمون ويأكلون ويرسمون وماهي ألوان الحياة لديهم، كيف يحتمل كوكبنا كل هذا الاختلاف الفكري والديني والاجتماعي والفني، كيف يكتبون بهذا الشغف الذي أقرأ أنا به، وكيف يمتزج لديهم الفرح والألم فينتج إبداعاً أدبياً تتنفس الشعوب سحره ويكبر القارئ في حضرته مئات الأعوام على عمره. 

يقول فرانسيس بيكون: "الكتب هي السّفن التي تمر عبر بحار الوقت العظمى". اعتدت أن أصنع طائرةً ورقية صغيرةً في كل مرةٍ أقرأ فيها كتاباً كي أستخدمها كمؤشر بين الصفحات، ثم أملأ هذه الطائرة الصغيرة بأكثر الاقتباسات أو المواقف التي أثرت بي من وحي هذا الكتاب، إلى أن جمعت المئات منها فتراكمت على مكتبي، حينها تنبهت وأنا أرتبها وأتفحص ما كتبته عليها من معلومات وملاحظات فوجدت أنني بحق قد وصلت إلى ما هو أعمق؛ لقد جبت العالم على أجنحة الكتب وحطّ بساطي السندباديّ في أزمنة مختلفة وأمكنة بعيدة.

 
تنقلت في عواصم عريقة وتقمصت روحي حكايا القدماء وعاصرت حاضر الغرباء، لقد تمشيت في حدائق الأباطرة وتعرفت على أسرار كبار العلماء والقادة، وتناولت أشهى الأطعمة من مختلف موائد الدول، وخضت غمار معارك كثيرة فقاتلت في بعضها وقُتلت في أخرى، ورفعت راية النصر على جهلي حينما قرأت فانتصرت؛ جميعنا نمتلك قوة الطائرة الورقية التي تأخذنا إلى أي مكان نريد، نحن نسافر بعقولنا لا بجوازات سفرنا، الكتب هي رحلة الروح والعقل، ابتدأ الله عز وجل رسالته إلى نبيه محمد صلى الله عليه وسلم بـ"اقرأ".

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.