شعار قسم مدونات

المشكلة ليست في "الحظ" بل فيك يا مسكين!

BLOGS الرضا

"تبرز المشكلة حين يتم الربط الشرطي بين ثقافة المتعة وصورة الشباب المتمتع بالحيوية والفرح والانطلاق والتحلل من الأعباء والعناء، في حالة من اللهو وخفة  الظل حتى العبثية. ذلك أن هذا الربط يدفع إلى الغرق في الراهنية دون ما عداها، ويرسخ صورة دنيا الحظوظ التي يجب الاستمتاع بها"

(مصطفى حجازي)

 

رأيت من الناس من كفر حظه وحياته لكنها بالنسبة للآخرين فهي الجنة، إذ ما يملكه هو لا يملكه غيره، ودائما ما أقارن حظ الملك الجائع دوما والفقير الذي يرى ما فوقه ويحمد الله على النعم القليلة والدائمة، لهذا هناك جملة أحبها وأستخدمها دائما وهي: "إن الحظ ذكي جدا ﻷنه يعرف من يختار".

 

وعليه فأنك لن تجد راضيا عن حظه بتاتا، وَجُلْ الدنيا وَسِرْ في أقطارها وخالط أهلها وناطقهم ما استطعتَ على ذلك صبرا وسترى، فكل مجتمع يحوي أصنافَ البشر بأسرهم، لكن وجب أن تكون حاذقا في انتخاب العينات الممثلة، وأجدْ تفحّصَ القول وتفتيق الكلام فهو الطريق إلى خبايا النفوس ومكنوناتها، فإن لكل إنسان معجمه الخاص ولألفاظه دلالات معينة، لأنه -أي كل إنسان- عندما يستخدم اللغة فهو يعيد صياغتها وتركيبها وفقا لما يبتغيه -هو لا غيره- ويشعر به ويفكر فيه ويحسّه.

 

إن ما نراه من رضا مصطنع على الوجوه إنما يطفو على بحر هائج من المشاعر الساخطة، إننا كبشر لا يظهر منا سوى الأقل من حقيقتنا، وهذا مما يجب التفطنُ له
إن ما نراه من رضا مصطنع على الوجوه إنما يطفو على بحر هائج من المشاعر الساخطة، إننا كبشر لا يظهر منا سوى الأقل من حقيقتنا، وهذا مما يجب التفطنُ له
 

فمعاني قوله هي ما يعنيه -هو- بها وليست بالضرورة هي مدلولات الكلام في أصل اللغة، ولهذا فالقاموس -أي التقليدي الذي يباع في المكتبات- قد يكونُ مضللا أحيانا، بمعنى أن لكل إنسان لغة مستقلة لن نستطيع فهمه إلا بفهمها هي، فروحُهُ لا تنطق إلا بذلك المعجم المخبوء، وهو غير مطبوعٍ على الأوراق ولا محمولٍ بالأكف، وقد قيل: "المرء مخبوء تحت لسانه"، وأقول: لسانه هي لغته تلك المشارُ إليها، ونحنُ نتعرّفُ على معاجم الآخرين بالتدريج، وبطول الصحبة والمرافقة سنتقنُ فهمَ لغته ونتمكّن من التفاعل "الكامل" معه من خلال إلمامنا بـ"لسانه الخاص"، ومن ثمَّ فهذا طريقنا الوحيد لمعرفة حقيقة انطباعهم عن حياتهم ورؤيتهم لـ"حظوظهم".

إنك لن تصادف قنوعا بما أُتي، (مهما أُوتي كثيرا مما يراه الآخرون حظوظا تتفلّقُ لها الصخور)، أو نادرا ما ستجد، بل إنني أرى تلك القناعة والرضا التي يلغو بها كثيرون إنما هي يأس بعد طول لهث وتطلب وراءَ حظوظٍ رأوها كبيرة ومغرية، فهم يسترون طمعهم المخذول بـ"راحة اليأس" الذي أحيانا ينعتونه بـ"القناعة" أو "رضا بالمقسوم"، أو حتى ربما تدثروا بالزهد والتجرد إلى الآخرة واستدبار الدنيا بأسرها، ولن يعجزهم -مثلاً- تلمّس النصوص الزهدية التي يُوارونَ بها يأسَهم الذي -إن سبرنا أغوارَهُ سنراه- يستبطنُ شغفَهم بالحياة وتهالكَهم عليها.

إننا إذا أسقطنا المنهج في أي علم صارت المعطيات -وهي هنا النصوص والآثار- تدل على كل شيء حتى إنها في النهاية لا تدل على شيء، وهذا داءٌ قد يصيب كل العلوم إن خاض فيها الجهلة والدخلاء، ليس هذا طعنا في الزهد وأهله، لكن ما كل ما يُقال عنه "زهد" هو زهدٌ في الحقيقة.

كثيرا ما نستحضر فشلنا عندما نبصر نجاحات الآخرين، وعندما نقارن بيننا وبينهم فنحن كثيرا ما نبخس حظوظنا ونستحقرها ونراها هي الأقل

إن ما نراه من رضا مصطنع على الوجوه إنما يطفو على بحر هائج من المشاعر الساخطة، إننا كبشر لا يظهر منا سوى الأقل من حقيقتنا، وهذا مما يجب التفطن له، كما أنك لا ترى من البحر سوى صفحة مائه الطافية، أما أكثره فهو مما لا تراه باديا، إنك لن تراه إلا بالغوص فيه، بل حتى عندما تفعل فلن ترتاد سوى ما تستطيع وهو شيء بالغ الضآلة، ثم يعمل القياس العقلي عملَه في رأسك وتستدل على مدى أعماق البحر بما رأيتَ منه، وعندما تطلق بصرك في الشواسع الطافية منه ستدرك كم للبحر من أحشاء مهولة.. إن لكل بادٍ عمقا، ولكل ظاهر خفيا، فهما شيئان مختلفان تماما، وقلما يتطابقان، وبالضبط فإن الإنسان أضخم من البحر، والغائصون فيه أقل ممن غاصوا في البحر وكشفوا الكثير من أسراره.

نحنُ عندما ننظر في حظوظ الآخرين ومكاسبهم فإننا غالباً ما نراها -من غير أن نشعر- من أفق إخفاقاتنا وخساراتنا، وكثيرا ما نستحضر فشلنا عندما نبصر نجاحات الآخرين، وعندما نقارن بيننا وبينهم فنحن كثيرا ما نبخس حظوظنا ونستحقرها ونراها هي الأقل، فالآخرون وأشياؤهم وماصنعوا -بالنسبة إلينا- هم كالصورة الكبيرة التي تضج بالألوان والشخوص والأصوات والأشياء، ونحن كالمشاهد الذي استفردت به "الصورة الكبيرة" فأوسعته حسرةً وألما، لأنها أيقظت وعيَهُ ونبّهته إلى "حرمانه الذي لا نظير له..!".

 

إنه يرى ما سواه كواحد أمام الجميع، كالمشاهد تلقاء الصورة الكبيرة، مع أن أجزاء هذه الصورة -عندما نفككها- سنجدهم شخوصا منفردين مثله تماما، أي أنهم مشاهدون مأخوذون -هم أيضا- بـ"الصورة الكبيرة الأخرى" التي لم ندرك أننا -نحن هذه المرة- جزء منها أيضا، فنحن كـ"أشخاص منفردين" ننظر إلى نحن كـ"أشخاص مجتمعين"، وكلٌ منّا ينظرُ إلى ما سواه بوصفه متلاحما بصورة كبيرة فاتنة، لا نستطيع فصلَهُ عنها كـ"جزءٍ" من "كلٍ موهومٍ".

  

فكرةُ
فكرةُ "الحظ" وهمٌ كبير، فالحظوةُ الحقيقية ليست في الأشياء كلها، بل هي في الرضا الذي يشع في النفس فيملؤها طمأنينة، وهو شعور مجرد، فلا رضا تام إلا في الجنة
 

بمعنى أن المشاهد السليب أمام الصورة هو كل إنسان مبهور بالصور التي أمامه والتي تتكونُ من أشخاص هم مبهورون بصورٍ كبيرة أخرى، وذاك المشاهد ربما كان جزءاً منها. الصورة هنا هي تعبير عن كل ما نتصوره مما يحيط بنا من واقع أو خيال، أشخاص أو أشياء، ولنتأمل في الحديث الشريف الذي يقول: "انظروا إلى من هو أسفل منكم ولا تنظروا إلى من هو فوقكم فإنه أجدر أن لا تزدروا نعمة الله عليكم" وهو متفق عليه، فإن الجميع -المفتون والمفتتن به (الذي هو مفتون بآخر)- مخاطبون بهذا الاقتراح الحكيم الذي سيفضي بنا إلى الإطمئنان، تأمل أنه خطاب للجميع، المشرد المفتون بالموظف، والموظف المفتون بالمسؤول، والمسؤول المفتون بالتاجر، والتاجر المفتون بصاحب السلطة، وربما صاحب السلطة المفتون بالفقير لأنه "خالي البال من الهموم الكبيرة والمؤرّقة"..وهكذا.

لأن الإنسان دائما ما يبحث عما يفتقد، وهذا المفْتَقَدُ هو "الحظ" الذي تتطلّعُ إليه العيون والرغبات، وبه تُعقد المقارنات بين الشخص وغيره، وبه يكتشفُ -أو ينخدع بالأحرى- كم هو "منقوص الحظوظ" و "قليل التوفيق".

إذن ففكرةُ "الحظ" وهمٌ كبير، فالحظوة الحقيقية ليست في الأشياء كلها، بل هي في الرضا الذي يشع في النفس فيملؤها طمأنينة، وهو شعور مجرد، فلا رضا تام إلا في الجنة، أما ما سواه فحسرات تعقبها حسرات، وإذا تأمل الإنسان فيها أصابه ما يشبه "الزهد القهري" منها فيرتاح، لا لأنه نال وكسب، بل لأنه علم أن المكاسب أوهام، وسراب يحمل البشر على الركض في مناكب الحياة فتعمر بهم ثم يزولون ويعقبهم آخرون يخدعهم السراب نفسه ليعمروا الأرض مرة أخرى.. وهكذا، لعله "الوهم الحقيقي" الذي به تدور دوامة الحياة.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.