شعار قسم مدونات

عودوا بأرواحكم من غربتها!

Blogs-alone
الأصعبُ من غربةِ الجسدِ التي نعرفُها هو غربة الروح: الغربة الحقيقيّة التي تُجردنا من تفاصيلنا ومن وهجِ الحياةِ فينا، فنعيشُ مغتربين بين أنفسنا، ميتين في عدادِ الأحياء، بينَ اللاشيءِ واللاشيء، نُراودُ أنفسنا ونقنعها بأن الأمر صحي ولا بأس فيه، حتى نصلَ بها إلى مراحلها الأخيرة من الموتِ الذي لا نستطيعُ عنده تطبيق بروتوكولات الإنعاش، فنموت حقا.
 
هذهِ الغربة التي نجدنا قد اغتربناها فجأة وعلى غير حُسبان، وباشرنا تِباعا في الفقد، فقد أشيائنا الجميلة، فقدِ ناسنا الطيِّبين، شغفنا الأوّل، ابتهاجاتِنا بالبدايات، تيمننا بالمطر والصباحات، تألّقنا الذي تعوّدناه أو فقدِنا نحنُ "نحنُ" الذينَ كُنا!
 
فجأة وعلى غير حُسبانُ، نجدنا انصهرنا في الروتينِ، وانزلقتْ من بينِ يدينا الأيّام، وعليهِ فلتت كياناتُنا منا وتجمدت شُعل التميّزِ التي أوقدت انطلاقتنا الأولى، فانطفأنا وانطفأت رغباتنا الكثيرة التي تؤجج رغبتنا الأساسية في الحياة أو التي تضعُ معنى لاستيقاظِنا في مطلعِ الصبح، أو تعطي تفسيرا منطقيا للمنبهات التي نضبطها باكِرا .. هنا هنا هنا: نكونُ نؤدي أشنع طريقة قتل بطيئة بحق أنفسنا، فنهدر طاقاتنا الكامنة، قدرتنا على النمّو ونضيع منصات التميز التي كان من الممكن أن نصعدها في ما لو كنا أحياء حقيقيين.
 
ومن علاماتِ هذه الغربة، أو هذا الموت: أنك تجدُ نفسك تؤدي كل شيء في حياتِك لأنك -وفقط- مضطرُّ له، لا أكثر من ذلك ولا أقلَ، تفقد قدرتك على الفرح وتنسى ميكانيزما التبسم، وتدفعُ عجلةَ الروتين الثقيلةِ دفعا بقالبها الكامل، ودون أدنى ومضةِ شغف، أو أنك تجدُ نفسَك فقدتَ طعمَ مُتعةِ اجتماعِك بالأشياء التي تفضل، التقاءكَ بناسِك التي تحب وممتلكات روحك الأساسية، فتجدُ نفسك -وفجأة- مُجرّدا من كل شيء؛ بلا هواية، بلا لونٍ مفضّل، بلا كاتبِ محبَّب، وبلا أي شكل من أشكال الاختيارات.
 
عِشْ حُرا، خارجا عن قالب الروتين، حارب المجاملات، كُن فوق الأطر والقواعِد، لانهائيا، لاواقعيا في خيالك، إذ إن  اللاواقعيَة تدفعُك دائما لأن تبذل كي تزهر بواقعكَ
عِشْ حُرا، خارجا عن قالب الروتين، حارب المجاملات، كُن فوق الأطر والقواعِد، لانهائيا، لاواقعيا في خيالك، إذ إن  اللاواقعيَة تدفعُك دائما لأن تبذل كي تزهر بواقعكَ
 

غير قادر على تحسس حنينِك للأشياء، عاجز عن تطبيقِ مصطلح الاشتياق.. متصلِّب في منتصف الممرات، لا أنت ذاهب في سَفَر ولا أنتَ عائد منه، لا أنتَ حيّ في شرعِ المعنى، ولا أنت ميت في عداد الوفيّات، لا أنتَ الذي كنتَ ولا أنتَ الذي أردتَ أن تكون، ولا أنتَ أنتَ! في المنتصف، عابس، مصفرّ، قاتم، خائر القوى، ولا شيء، مُعَلَّقٌ، كالجمادِ التام . ثُمَّ ماذا؟! ثمَّ والآن! تخلّص من هذهِ الغُربة التي تلبستك فجأة، ودع عنك كل أركانها التي أودت بكَ إلى هذا المقر، وأسقطت عنك شمسك المتوهّجة، غير الديكور بالكامل، واهجر كل الأشياء التي أوقفت أنفاسك، دعها بما فيها من معطياتِ وأشخاص وأماكِن، لأن الغربةَ -بكلِّ ما فيها- مجرّد خسارات؛ ضعْ حدا لخساراتك وعُد واربح من جديد.

 
عد واسترجع نفسك من كل شيء استلك منها، عُد من الناس إليكَ، من عجلةِ الروتين إلى رغباتك المشتعلة، وإيمانك الكامل، من بردِ العالمِ إلى دفءِ قلبِك، توهَّج، واخلقْ لذَّة المعنى، تابِع تدفّق دمك، لا تطفئ حرارته في عُروقِك، كُن أنتَ أنتَ، روحك فيكَ، تؤدِّي الذي تشاؤه وبرغبتك الحقيقيّة وشغف مشمس.
 
لا معنى لهذه الحياةِ وأنت في هذهِ الغربةِ الكئيبة، ولا طاقةَ لقلبك في أن يبث الأكسجين لأجزائه وهو مسجونٌ في هذا البردِ، إنَّك إن اكتشفتَ غربتهُ عنكَ فعد وحرره فورا، لا تؤطر طاقاته الإبداعية، ولا تحرم نفسك من فضاءاتِ السماءِ، لا تضعُ سقفا لتطلعاتك فيشنقك هذا السقف أو يسقطُ عليك.
 
عِشْ حُرا، خارجا عن قالب الروتين، حارب المجاملات، كُن فوق الأطر والقواعِد، لانهائيا، لاواقعيا في خيالك؛ إذ إن اللاواقعيَة تدفعُك دائما لأن تبذل كي تزهر بواقعك، دع التفاصيل المُرهقة، والحشوات غير المهمة، كُن أنتَ بأقصى ما استطعت وكلّ ما ملكت، وعِش!

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.