شعار قسم مدونات

محاولة لتفكيك الانحطاط

blogs اختلاط

استعملت في مقال لي ذات يوم كلمة "استخذاء"، فلامني قارئ في تعليقه وتأفف من استخدام مثل هذه الكلمات "الميتة". ولكن وضعنا الحالي، يا أخي، يستدعي هذه الكلمة؛ فإن كانت كما زعمت ميتة فلا بد من إحيائها، وليست بالميتة، ولتمت إذا مات فينا الاستخذاء؛ الاستخذاء هو اتخاذ موقف الجبن والذل.

 

الحمامة الغبية

كانت الحمامة تبني عشها في أعلى نخلة ذاهبة في السماء، فيأتيها الثعلب ويقول لها ارم لي فراخك وإلا صعدت وأكلتكم جميعا، فتستخذي الحمامة وترمي له فراخها، ولم تفكر الحمارة -هي في الواقع حمامة- في أنه لا يستطيع صعود النخلة، ولو صعد بطائرة عمودية مثلا ففي مقدورها أن تطير وتنجو، هي غبية وجبانة وذليلة. هل عرفت أهمية كلمة "الاستخذاء" في حياتنا العربية اليوم؟ ألا نرمي فراخنا للثعلب؟ ألا نرمي له القدس وسوريا وليبيا، وأموالنا؟

 

شيء عن المستقبل

هناك مفردات أخرى نرجو أن تنطبق معانيها علينا في المستقبل: الأنفة والشموخ والإباء والكبرياء. هذه قصة عن "تيودور نولدكِهْ" المستشرق الألماني. ألَّف نولدكِهْ في سنة 1864 كتابا باسم "مساهمات في فهم شعر العرب القدماء"، وفي آخر فقرة من الفصل الأول أورد بيت سعد بن ناشب:

سأغسل عني العارَ بالسيف جالبا **  عليَّ قضاءُ الله ما كان جالبا

 

الفساد يمنع العلم ويمنع النهوض. ولا يدري الباحث في أوضاع العرب من أين يمكن أن يبدأ الإصلاح

وقال الألماني معلقا: "بهذه الكلمات يمضي العربي الحر إلى ساحة القتال ولقاء الموت، هذه الروح الرجولية التي تتجلى في قصائد الأعراب القدماء ساكني الصحراء يمكن أيضا أن تكون قدوة لنا. والآن يبرز أمام الشعب الألماني السؤال عما إذا كان قد عقد العزم على أن يغسل بدمه العار القديم؟" انتهى كلام نولدكِهْ بترجمة عبد الرحمن بدوي. وبعد ست سنوات انتصرت بروسيا الألمانية على فرنسا ووحدت الولايات الألمانية كلها. حكوماتنا بحاجة إلى جرعة كبيرة من الكبرياء والإباء.

 

شيء عن الحاضر

كنت أجلس مع زميل إنجليزي في شرفة فندق ببلدة هلفرسوم الهولندية، قال لي: هذه البلدة تتبعَّق ثراء.. ألا ترى سياراتها الفارهة الجديدة؟  قلت: لا، بصراحة لم أنتبه إلى الأمر. لم ألاحظ سياراتها الفارهة الجديدة لأنني رأيت في عواصم العالم العربي سيارات أفره منها. المسؤولون العرب يسرقون من مال الخزينة.

 

الفساد يمنع العلم ويمنع النهوض، ولا يدري الباحث في أوضاع العرب من أين يمكن أن يبدأ الإصلاح. تشاهد أخبار العالم العربي فإذا هي إحصاء قتلى وجرحى ونزاعات بين الحكومات يدفع لها الناس ثمنا عاليا. وتشاهد أخبار العالم المتقدم فتعرف أن الروبوت يجري عمليات جراحية، والطبيب يقف مبتسما للكاميرا قائلا للمراسل: أنا أراقب فقط، الروبوت يجري العملية أفضل مني. 

 

المطلوب إسقاط المجتمع

من أين يبدأ الإصلاح؟ ربما كانت أفضل بداية التخلي عن كلمة "إصلاح". قال لي الميكانيكي الذي ذهبت إليه بسيارتي البالغة 23 ربيعا: فات زمن إصلاحها، بعها خردة. وبعتها خردة بسبعة وثلاثين جنيها إسترلينيا، وكان فيها بنزين بنحو عشرين جنيها.

 

الناس في العالم العربي فائرون من الغلاء ومن الفساد، لكنهم لن يكونوا ثائرين، وقد لا يتاح لهم ربيع ناجح لسنوات كثيرة، لأن الأنظمة أخذت أيضا دروسا، وأصبحت أعتى وأمهر في القمع
الناس في العالم العربي فائرون من الغلاء ومن الفساد، لكنهم لن يكونوا ثائرين، وقد لا يتاح لهم ربيع ناجح لسنوات كثيرة، لأن الأنظمة أخذت أيضا دروسا، وأصبحت أعتى وأمهر في القمع
 

للأجانب طرائق عجيبة في توجيه النصح إلينا: بعض الديمقراطية، وبعض المكاشفة، وبعض الشفافية، ومؤسسات مجتمع مدني، إلخ. وجاء الربيع العربي لكي يقول لهم ولنا: نحن بحاجة إلى زلزال، وقد فشل الربيع العربي، ولكنه حمل دروسا من أهمها أن الطبقة الحاكمة لا تتورع عن ارتكاب كل موبق في سبيل مصالحها الضيقة، وأن المظاهرات الحاشدة لا تسقط الأنظمة في غياب البديل المنظم ذي البرنامج الواقعي والمهارة السياسية.

 

نعم، كان الإخوان المسلمون في مصر بديلا منظما، ولكنه افتقر إلى البرنامج الواقعي وإلى المهارة السياسية. وكان حزب النهضة في تونس بديلا منظما، وأشارت عليه واقعيته بأن يتنحى في هذه المرحلة.

الناس في العالم العربي فائرون من الغلاء ومن الفساد، لكنهم لن يكونوا ثائرين، وقد لا يتاح لهم ربيع ناجح لسنوات كثيرة، لأن الأنظمة أخذت أيضا دروسا، وأصبحت أعتى وأمهر في القمع.

 

فيما أقدر فالربيع الناجح بحاجة إلى ثلاثين سنة، وفي هذه السنوات الثلاثين قد نغوص في مستنقع الخمول والاستخذاء فلا يكون ربيع، وقد نتدرج -على نحو لا أستطيع تبين ملامحه- بحيث يكون لنا ربيع ناجح.

 

يسار ويمين وخيبة عريضة
أهل اليسار البائد من الشيوخ المسودة أسنانهم جعلوا الأنظمة المستبدة وكيلا لهم فرحين بعلمانيتها قابلين جرائمها، والواقع أنهم لا يفكرون بعقولهم بل بجيوبهم

الشغل الحقيقي لأهل الفكر والرأي الآن يتلخص في تشييد برنامج واقعي، وفي اكتساب المهارات السياسية والتنظيمية، وفي العمل السري. فماذا عندنا من ذلك؟

 

رأيت مؤخرا مثقفا من بقايا اليسار، فكان من بعض آرائه أن التضحية ببعض مئات من الآلاف قتلا وببضعة ملايين تهجيرا ثمن مناسب للتخلص من الرجعية، وكان الحديث عن سوريا. والتقيت يساريا آخر قال إن ما تفعله الأنظمة بأصحاب "الدقون" ليس كافيا، وتجب إبادتهم.

 

أهل اليسار البائد من الشيوخ المسودة أسنانهم جعلوا الأنظمة المستبدة وكيلا لهم فرحين بعلمانيتها قابلين جرائمها، والواقع أنهم لا يفكرون بعقولهم بل بجيوبهم، فهذه الأنظمة توظفهم في وظائف تافهة في وزارات تافهة كوزارة الثقافة، والذي يأكل خبز السلطان يضرب بسيفه.

 

ورأيت مثقفا من أهل "الدقون" في رحلة قمت بها مؤخرا إلى عاصمة العالم العربي "إسطنبول"، كان في حديثه شتامة ناقما، تحدثنا عن عبد الناصر وعهده، وكنت أحاول أن أصل إلى فهم للاستبداد وللحكم العسكري وطبيعته، ولكن صاحبنا كان يسبقني فيشتم "المجرم الكلب ابن الكذا.."، لا فهم ولا نقاش. المرأة بالنسبة إلى عقله الصغير متاع.. ولا أدري كيف ورد اسم أم كلثوم المغنية في السياق فوصفها بكلمة لا يجري بها قلمي. مثل هذا الشخص لا يصنع برنامجا واقعيا لأنه لا يتعامل مع الواقع أصلا.   

 

أقول بكل أسى إن المرء يحمل بيده مصباح ديوجين باحثا عن مثقف عربي عاقل.

في زمن الاستبداد يصبح الناس صغارا.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.