شعار قسم مدونات

التصريحات الترمبية وعلاقتها بالسياسة الأميركية

مدونات - دونالد ترامب 22
في وقت زادت فيه الأصوات المستنكرة لتصريحات الرئيس الأمريكي دونالد ترمب ضد الأفارقة والمسلمين، خرج كعادته عبر تويتر ليكذب ما اعتبره سوء فهم! والحق أن تصريحات ترمب إنما تعكس حقيقة السياسة الأمريكية التي لطالما استعملت مساحيق التجميل، لتظهر بمظهر المدافع عن حقوق الإنسان في الوقت الذي لا تقيم فيه وزنا لأية اعتبارات أخلاقية.
الأطروحة التي نستعرضها هاهنا، ليست موقفا إيديولوجيا ولا هي بقناعة سياسية، وإنما هي تحليل واقعي لموضوع واقعي-كما كان يقول الفيلسوف الماركسي فلاديمير لينين- ليس من الغريب في شيء أن يستحيل السلام إلى فكرة مثالية1 يتعذر تحقيقها في وقت تواجه في البشرية أخطر الأسلحة فتكا على الإطلاق، حتى إنها صارت تسلب الإنسان أمنه وتحيط به من بين يديه ومن خلفه دون أن يستطيع منها خلاصا، ودون أن يجد منها فكاكا! لقد أضحى السلام مثل سراب في صحراء قاحلة تحكمها النوازع المتعارضة .

في هذا السياق، جاء خطاب ترمب، ليس ليعبر عن موقف شخصي، بل ليعكس حقيقة السياسة الخارجية الأمريكية التي تنهجها الإدارة الأمريكية منذ عقود خلت. إنه لأمر سخيف أن نعتقد بأن ترمب يتحدث عن موقف شخصي، ففي الدول ذات الطبيعة الاستبدادية، يمكن أن نتفهم خروج حاكم بتصريحات عنصرية، مادام يدوس بقدميه الإرادة العامة لشعبه دونما اعتبار أخلاقي ودونما هاجس قانوني. لكن الوضع يختلف كل الاختلاف، عندما يتعلق الأمر بدولة كالولايات المتحدة الأمريكية، مادام دستورها ينص على الديموقراطية باعتبارها الركيزة التي قامت عليها السياسة الأمريكية.

السياسة الأمريكية إزاء شعوب العالم ليست مبنية على الأخلاق والقيم النبيلة وقد عبر عن ذلك ترمب صراحة في حملته الانتخابية تحت شعار " أمريكا أولا" 

لا أحد ينكر أن الحاكم يعتبر في الدول الديموقراطية مطبقا للإرادة العامة، لأنها تعتبر مصدر الشرعية، وهو ما يعني أن تصريحاته حتى وإن صدرت عنه شخصيا، فإنها تعبر عن موقف رسمي نظرا لمكانته الاعتبارية المتمثلة في تنفيذ الإرادة العامة. لا جرم إذن أن الذين يدافعون عن سياسة ترمب والذين يضعون مساحيق التجميل على السياسة الأمريكية إنما يقبلون الدخول في لعبة خبيثة وهم عن ذلك غافلون. ألا إن الذين يتغافلون عن الحقيقة الإمبريالية للسياسة الأمريكية إنما يقبلون-بعلم أو بدون علم- لأن يتحولوا إلى دمى تحركها الأصابع على مسرح العرائس!

لا شك أن السياسة الأمريكية لا تخضع لأي منطق، اللهم منطق المصلحة. لقد كانت أمريكا حتى قبل الحرب العالمية الثانية، تدعي أنها أقامت سياستها على السلام -من حقها ذلك طبعا فلكل دولة مرجعية- ولكنها دخلت الحرب العالمية الثانية لأسباب اقتصادية خالصة. وعندما سأل أحد الصحفيين مسؤولا أمريكيا عن سبب استعمال بلده للسلاح النووي وقصفها لهيروشيما وناكازاكي لم يجد حرجا في أن يجيب " لولا استعمال الولايات المتحدة للسلاح النووي لامتدت الحرب أكثر من اللازم، وبالتالي ستزهق الكثير من الأرواح".

إن تصريحا كهذا إنما يبين كيف أن مقولة "حقوق الإنسان" عند الدول العظمى، إنما هي عبارة عن يافطة لأشد الانتهاكات التي تعرفها حقوق الإنسان. وحتى لو افترضنا جدلا رغبة أمريكا في إنهاء الحرب، فهل تلك هي الطريقة الوحيدة؟ وهل إسقاط قنبلتين نوويتين على أناس عزل لا يملكون من أمرهم شيئا هو الحل؟ بل حتى الشجر والحجر لم يسلم من بطش وجبروت الطبيعة الإنسانية. هذا دون أن تغيب عن بالنا الويلات التي عاشها أطفال فيتنام والعراق وأفغانستان، أطفال لو وفرت لهم دول العالم شروطا للتعلم لكان وضع العالم أفضل، ولكنا ربحنا عقولا تبعث بأمل جديد للبشرية جمعاء!

هل يمكن لأحد بعد كل هذا أن يثق في السياسة الأمريكية، فقد أقنعت السياسية الأمريكية الرئيس الليبي السابق معمر القدافي بضرورة العدول عن تطوير برنامجه النووي، ولكن السياسة التي وفرت له الحماية لأمد بعيد هي نفسها السياسة التي أطاحت به ونكلت به شر تنكيل! كما أن السياسة الأمريكية التي شجعت صدام حسين على غزو الكويت هي نفسها التي حكمت عليه شنقا في حدث تزامن مع أقدس مقدسات المسلمين وهو عيد الأضحى!

إذا كانت هذه هي حقيقة السياسة الأمريكية المتقلبة حسب تقلب السوق(ذلك أن السياسة الأمريكية إنما تنظر للعالم كسوق كبيرة) فكيف يمكن للزعيم الكوري الشمالي أن يثق بالوعود الأمريكية بعد تحقيق السلام الموعود؟ ذلك أن "كيم جونغ ون" يدرك تمام الإدراك أنه مجرد طعم، وربما هو مجرد المقدمة لجر نظامه نحو الهاوية التي لاريب فيها إن هو قبل بتلك الشروط!

ما صرح به ترمب إذن هو تعبير عن "المخفي" الأمريكي، الفرق الوحيد بين السيد ترمب والحكام الذين سبقوه، هو أن الحكام الأوائل كانوا يعطون السم للشعوب الضعيفة مرفقة بالعسل، في حين فضل ترامب تقديم السم للشعوب كما هو دون "لف أو دوران" كما يقول المثل المصري.

undefined

إن السياسة الأمريكية إزاء شعوب العالم ليست مبنية على الأخلاق والقيم النبيلة، وقد عبر عن ذلك ترمب صراحة في حملته الانتخابية تحت شعار " أمريكا أولا" فهذا الشعار الذي قد يبدو بسيطا للوهلة الأولى إنما يخفي في طياته الكثير من الحقائق أهمها:
1 : السياسة الأمريكية لا تؤمن إلا بمنطق المصلحة.
2 : السياسة الأمريكية ليست ثابتة على حال.
3 : السياسة الأمريكية تتغير وفقا لمنطق السوق.

بإمكاننا أن نلاحظ أن هذه الخصائص الثلاث مرتبطة فيما بينها على نحو جدلي، فهي ترجمان لجوهر واحد قوامه المصلحة التي لا تقيم وزنا لاختيارات الشعوب الأخرى.

على هذا المنوال، كان فلاد تيبوس3 -وهو أمير روماني عرف بمعاداته للمسلمين في العصر الوسيط- يقتل فقراء بلاده ترانسلافانيا رغبة منه في القضاء على الفقر، حيث قادته فطنته -ويا للأسف- إلى الاعتقاد بأن القضاء على الفقر لا يمكن أن يتحقق، إلا بالقضاء على الفقراء تماما كالقول بأن الحرب العالمية ما كانت لتنتهي إلا باستعمال السلاح النووي!

إن العالم مدعو وأكثر من أي وقت مضى إلى التضامن من أجل غد أفضل للبشر، غد يمد جسور الحوار بين الشعوب بدل قرع طبول الحرب، غد ينمدج في المصلحة العامة، بدل التقوقع على المصلحة الخاصة، غد يمكن أن يتحقق فيه الإخاء بين البشر بدل الحرب التي لا تبقي ولا تذر.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.