شعار قسم مدونات

لماذا لا ننسى الرئيس صدام حسين؟

مدونات - صورة صدام حسين

كنت حينها في الثالثة عشر من عمري، عندما شغّلتُ جهاز الراديو للاستماع لنشرة الخامسة والربع فجرا، من راديو "سوا" -الإذاعة الأميركية الناطقة بالعربية- وكان الخبر الأول للنشرة صادما جدا بالنسبة لي، أعلن المذيع أن عملية إعدام صدام حسين ستنفذ بعد لحظات في العاصمة العراقية بغداد. لم أتمالك نفسي من هول الصدمة، وأجهشت بالبكاء بشكل هستيري، وكأنني أبكي قريبا لي، لا رئيسا أحببته دون غيره من الرؤساء وأنا لازلت طفلا في ذلك الوقت، أحببته عراقيا شامخا، وأنا اليمني الذي اكتوى بجراح بغداد، ويا ليتني كنت أحد أبنائها لأشاطرها جحيم الحرب، وحتى يتسنى لي لقاء هذا الديكتاتور والحديث معه عن كثير من الأسئلة التي غزت عقل طفل لم يبلغ الحلم، أرهقتني السياسة صغيرا، ولا تزال تنال مني، وأنا في عز الشباب.

رحل صدام حسين صبيحة عيد الأضحى المبارك، في مشهد مؤثر بثته معظم الفضائيات، تأثر الشارع العربي والإسلامي كثيرا، أما الزعامات العربية فاكتفت بعض منها بإصدار بيانات إدانة خجولة، من باب المداهنة السياسية، ورفض توقيت الإعدام الذي استفز مشاعر ملايين المسلمين، بمن فيهم مئات آلاف الحجاج وهم يؤدون المناسك في مكة المكرمة. فقط في ذلك الصباح كانت بغداد على موعد مؤلم، ودعها صدام قبيل مطلع الفجر، وهو يرتدي معطفه الأسود، لم تبك بغداد وحدها، بكت الموصل والرمادي والبصرة وكركوك، بكت أيضا صنعاء والرباط وطرابلس وكوالالمبور وإسلام آباد ومقديشو، كان صدام ينظر النظرة الأخيرة نحو بغداد، المدينة التي حكمها لنحو ثلاثة عقود من الزمن، تأملها بنظرات ثاقبة، من داخل المروحية الأميركية، واستمد منها شموخا وكبرياء، تجلى في غرفة الإعدام، لحظة اعتلائه منصة النهاية.

 

undefined  

لا يزال اسم صدام حاضرا عند كل انتكاسة تصيب العراق، أو حتى مدن عربية، يتذكره الناس كرجل أصيل لديه من الشجاعة والنخوة ما لا يمتلكه زعماء العرب قاطبة، كما يمتلك صدام كاريزما قوية جعلته محط احترام وتقدير نظرائه في العالم العربي، وفي هذا السياق قال الحسن الثاني ملك المغرب الراحل: "عندما كان يتحدث صدام في القمة، كنا نصمت كأن على رؤوسنا الطير"! امتلك الشهيد صدام إرادة صلبة لا تقبل الخضوع، واستعدادا للمواجهة أيضا، ولديه كم هائل من العناد وعدم الخنوع، ولعل هذا كان سببا كافيا للإطاحة به، لكن، الآن وبعد رحيله، هل هناك قيمة لاستحضار اسم الرئيس القائد بعد أن أصبح رفاتا داخل قبره في مسقط رأسه بالعوجة؟ وهناك سؤال أهم: ما الذي يجعل الناس أصلا يستحضرون صدام حسين في مثل هذه المواقف؟ ألم يكن ديكتاتورا كما يقول عنه عدد من العراقيين؟

 

كم كان العراق عزيزا وهو يطلق صواريخه على تل أبيب، فتطرب لها قلوب الجماهير من المحيط إلى الخليج، وكيف أصبح العراق بعد سنوات من تسليمه لإيران، يغرد خارج السرب، ويتغنى بثورة الخميني!

والإجابة على هذا السؤال مؤلمة، وهي أن افتقار العالم الإسلامي عموما والعربي بشكل خاص لشخصية قوية وقيادية في الوقت الراهن، يولد فراغا في المشهد السياسي العربي يحاول العامة ملأه باستحضار الذاكرة، وفرز أسماء قيادية كصدام حسين. لم تكن إيران قادرة على تصدير ثورتها في ثمانينيات القرن الماضي، إذ أفشل العراق أولى هذه المحاولات، وفشلت قوات الحرس الثوري في تجاوز البوابة الشرقية للوطن العربي، ذلك أن صدام حسين القائد المحنك كان متيقظا لهذا المخطط، ونجح في التصدي له وإفشاله، رغم أن الحرب لم تكن من مصلحة البلدين وأنهكت الجيش العراقي كثيرا، لكن ذلك كان ضروريا للوقوف في وجه المد الخميني الطموح.
 

أما اليوم يتساءل الملايين: ما الذي عمله الزعماء العرب لوقف المد الإيراني؟ ألم يزدد اتساعا بعد سقوط العراق؟ ثم كيف فرطت الأمة الوسطى بهذا القائد ولم تبذل أدنى جهد لإنقاذه كما أنقذها من المد الإيراني الطائفي؟ أو على الأقل، لماذا أيدت أنظمة عربية إعدام الرجل، مع إمكانية التزامها الصمت؟ إيران لا تهتم لهذه الأسئلة، فقد أصبحت اليوم تتمتع بنفوذ يمتد من بغداد شمالا، وحتى صنعاء جنوبا، ومن البحرين شرقا، وحتى بيروت غربا، ووصل أرض الجزائر.

يقول حامد الجبوري في شهادته على العصر، التي عرضتها قناة الجزيرة، إن الرئيس التونسي المخلوع زين العابدين بن علي قال له أثناء غزو العراق للكويت: "على العراق أن تنسحب فورا، لأن العراق بوابتنا الشرقية التي نتكئ عليها، وإذا انهار العراق لا سمح الله، فلا يلومنا أحد إن تجهزنا للتطبيع مع إسرائيل"، وهو ما حدث بالفعل، انهار العراق، واستشهد الديكتاتور الجميل، ووصل العرب حاليا لمرحلة التطبيع عبر صفقة القرن المزعومة، يتساءل كثيرون: هل يجرؤ العرب على التطبيع لو كان صدام بينهم؟

كم كان العراق عزيزا وهو يطلق صواريخه على تل أبيب، فتطرب لها قلوب الجماهير من المحيط إلى الخليج، وكيف أصبح العراق بعد سنوات من تسليمه لإيران، يغرد خارج السرب، ويتغنى بثورة الخميني! فقد العراق بوصلته العربية وأصبح أقرب إلى ولاية إيرانية. من الصعب فرز الذاكرة واستحضار المواقف النبيلة في زمن يتصدره الخزي والعار، وكم هو مؤلم أن تصاب الأمة بالقنوط وتعجز عن صناعة قادة جدد بدلا من العودة لمخزون الذكريات والملاحم البطولية، تلك الذكريات التي أصبحت ذكرى نحتفي بها كل عام، بعد أن عجزنا عن صناعتها لنحتفي بها على أرض الواقع وفي الزمن الحاضر، وهذا ما يجعل شخصية صدام حسين حاضرة بقوة في المشهد العربي والإسلامي المتآكل، كشخصية عصية على النسيان، في زمن المراهقة السياسية وتجارة الضمائر.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.