شعار قسم مدونات

فقه السجون

Blogs- prison
يقول جواهر لال نهروا في مقدمته لكتاب لمحات من تاريخ العالم : إن لحياة السجن فوائد، إنها تهيئ جوا من الراحة والعزلة أما مساوئها فبينة واضحة ، ثم يضيف في موقع أخر من نفس الكتاب "ولكن هذه القيود طيبة" حياة السجن يقصد، فالإنسان قليلا ما يقدر الأشياء التي يحصل عليها بثمن ضئيل ، وإني بدأت أعتقد أن قضاء فترة السجن فرصة لا تعوض في دراسة الإنسانية والحقيقة إني وجدت في كلام نهرو الكثير من العزاء والرؤية التأملية التي تستبصر ماهية الأشياء وكنه الظروف و مآلاتها ، وإن كان السجن بلاء وابتلاء وظلمة وليلا حالكا فإن النفوس العظيمة تلين الحديد، وبهمة عالية تنظر إلى الجحيم بعيون الرحمة وتقتحم المصاعب وتنير ليل الدجى فجرا جميلا.
  
وقد رأيت في قصة يوسف بن يعقوب عليهما السلام النبي المبتلى أثرا زاخرا وهو يدعو الله بقول: "السجن أحب إلي مما يدعونني إليه" فكان السجن بظلمته خيرا له من المعصية وسفورها ولو بقي في بيت العزيز لارتكب الخطيئة وعصا ربه وخان رسالة آبائه ودخل السجن ذليلا وحاشاه أن يفعل، ولكنه أعرض وخاف مقام ربه فدخل غياهب السجن داعيا كريما لربه، وبعد سنين حيزت له خزائن الأرض ورفع أبويه على العرش.
 
والسجن ملتقى الصالحين وروضة العلماء المثمرة يقول الشيخ محمد ناصر الألباني وهو مسجون في قلعة دمشق: "وقد قدر الله ألا يكون معي إلا كتابي المحبب (صحيح مسلم) وقلم رصاص وممحاة وهناك عكفت على تحقيق أمنيتي في اختصاره وتهذيبه وفرغت من ذلك في ثلاثة أشهر بلا كلل ولا ملل وبذلك انقلب ما أراده أعداء الله انتقاما منا إلى نعمة لنا فالحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات". وقد سجن شيخ الإسلام ابن تيمية من قبل في المكان ذاته أي قلعة دمشق، وكان أبو العباس وقورا صبورا جبلا أشم، لا تهزه الحوادث ولا تحرك بأسه الرياح فقال ساخرا من قلة حيلتهم ومكر الله بهم ورحمته به: ما يصنع أعدائي بي أنا جنتي وبستاني في صدري، أين رحت فهي معي لا تفارقني، أنا حبسي خلوة، وقتلي شهادة، وإخراجي من بلدي سياحة.. ولما رأى السجن الخاص به ورأى أسواره العالية تمثل قول الله تعالى : "فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ".
  
نقل السجن
نقل السجن "مالكوم أكس" من عالم الجريمة والتشرد والصعلكة إلى عالم الأفكار والكتب والخطباء الجهابذة الذين أثروا في تاريخ أميركا المعاصر وساهم في وأد العنصرية ضد السود
 

والحقيقة أن السجن للعبد خلوة وانعزال عن الحياة، وفيه تبدأ المحادثات الحميمة والمصارحة الدافئة بين الذات والذات والمحاكات العابرة للمكان والزمان بين الإنسان والماضي والحاضر والمستقبل، ولهذا يتمثل السجن كمعصرة زيتون تنتج الأجود والأصيل وتخرج من الإنسان أنبل المشاعر وأرقها، وقد مررت غير ماكث على رسائل المناضل الماركسي الإيطالي وكانت موجهة لأمه فتفاجأت من شاعريته وكلماته الرقيقة وعذوبة روحه وتمثله الإنساني السامي الجميل في هذه الرسائل، ويبدو أن الإنسان في لحظات معينة لن تسعفه لا ماركسيته ولا لبراليته ولا كونه إسلامويا بالبعد السياسي ولكن الفطرة الإنسانية هي التي تنفرد بالخطاب.

 
ولست أعرف ما كتب وما تم تأليفه في السجون إلا وطار وحلق في سماوات النجاح وسارت به الركبان وتأثر به الناس فاستأثروا به عن غيره، وكيف لا وهو عصارة التجربة الإنسانية المنسحقة تحت جوارب السلطة وبراثن الجهل ومسامير الشرف، ولا يمكن أن يرمز السجن إلا للحرية والإستنارة والمعرفة، لهذا حُجزت فيه العقول حتى تنقطع عن الإنجاز والتحريك، ولكنها بقوة تجاوزت الملموس واستطاعت أن تتماهى مع روح الإنسان وأبدية أثره، والسجين هو وليد الحقيقة المجرد المعزول عن كل الشوائب، فتكون صناعته أعمق في الطرح وأشمل في التأثير والتغيير.
 
مصاب جلل أن يزج بأحدهم في غيابات السجن ويقبع فيه بعضا من عمره، ولكن الأمر لم يكن كذلك بالنسبة للمفكر الأميركي المسلم "مالكوم أكس"، فقد نقله السجن من عالم الجريمة والتشرد والصعلكة إلى عالم الأفكار والكتب والخطباء الجهابذة الذين أثروا في تاريخ أميركا المعاصر وساهم في وأد العنصرية ضد السود، ومن الطرائف أن كتاب لا تحزن للشيخ الدكتور عائض بن عبد الله القرني قد كتبه في الزنزانة، ولما سأله الملك سلمان عن صحة ذلك قال نعم كتبته في السجن أثرا بعد عين، فقال له الملك: لو نعلم أنك تكتب مثله مرة أخرى لأعدناك إلى السجن.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.