شعار قسم مدونات

ماذا تريدون لغزة؟

Blogs- gaza city
هي تلك البقة الجميلة من فلسطين والممتدة بطولها من شمالها إلى جنوبها والمطلة على البحر الأبيض المتوسط، عرف عن أهلها الشهامة والرجولة والكرم واتسمت حرائرها بالقوة والشجاعة والشرف والطهر، قاتلت غزة كل من أتاها غازياً. غزة هي الجزء الحنون من فلسطين الذي تكالبت عليه الأطراف المتصارعة وأجبرته على العيش في حالة من الضنك والتعب والشقاء لا لسبب اقترفه ولكن قدسيتها ومكانتها فرضت عليها أن تكون محط أنظارهم.
 
غزة التي تحتض ما يقرب من مليونَي مواطن جمعتهم قضية واحدة وهم واحد، تلاصقت البيوت في المخيمات حتى أضحت بيتا واحداً، وتناغمت العادات والتقاليد في ما بينهم حتى طغت بعضها على بعض. تسلل الحب إلى قلوبهم فكان العطاء والكرم يغلب على الشقاء والحرمان، وكانت ضحكات الفرح تعلو أنات الحزن والقهر، وحملوا جميعهم همهم وقاتلوا مجتمعين من أجله غير مكترثين بعواقب الأمور ولسان حالهم يقول ما دامت الوحدة تجمعنا فماذا يخيفنا؟ غزة التي فرضت معادلة الحب والنقاء وكانت خير من صدّر نماذج الوفاء لفلسطين وقضيتها؛ فكانت غزة أم الشهداء التي أبت إلا أن تحتضن أجسادهم في بطنها وليعودا اليها مرة أخرى بعد جولة بسيطة من مجريات الحياة. غزة التي عضت على جراحاتها لتعود حرةً أبية طاهرةً أرضها من دنس عدوها الغاشم، فكان عام 2005م عاماً مشهودا بانسحاب الاحتلال الصهيوني منها، تاركاً خلفه مستوطنات لطالما اعتبرها بعداً إستراتيجياً له.
 
كلُ هذا وأكثر عن غزة، والذي لا يمكن أن نحصره أو نفيها حقها في الحديث عنها، ولكن غصة في القلب تقهر غزة يوما بعد يوم. غصة في القلب تدمي قلوب الرجال الصامدين فيها. غصة في القلب تعزز تلك الجرح الغائر في قلبها الحزين. غصة الشقاق والنزاع بين الإخوة الأشقاء، ما طغى على تطلعات من حلم بالحرية يوماً، وباتت هذه المجريات المتلاحقة على الصعيد الميداني والسياسي هي الهم الأكبر الذي أرّق الغزيين خلال سنوات مضت، ليصل في هذه الأيام إلى ذروته ويدخل ضمن دائرة كبيرة من الاستقطاب الحاد في المجريات الحاصلة. وهنا يجب أن أكون منطقيا في حديثي عن جرح غزة الغائر، لاسيما عندما تساءلت في العنوان ماذا تريدون لغزة؟ فأكثر من ذلك لن يحدث ولم يبقَ للمواطن الذي لا يزال يفقد يوما بعد يوم عنصراً هاما ً من عناصر الصمود والتضحية وصولاً إلى حلمه المنشود في وطن كبير يحتضه.
 

لا أجد نفسي متطرقا لغزة ومشكلاتها إذا لم أتحدث عن غياب الكهرباء، إذ تغيب عن غزة يومياً ما يزيد عن 20 ساعة مقابل وصلها 4 أو 3 ساعات يومياً، ما لم يعد مقبولاً للمواطن، الذي بات ينتظرها على أحر من الجمر
لا أجد نفسي متطرقا لغزة ومشكلاتها إذا لم أتحدث عن غياب الكهرباء، إذ تغيب عن غزة يومياً ما يزيد عن 20 ساعة مقابل وصلها 4 أو 3 ساعات يومياً، ما لم يعد مقبولاً للمواطن، الذي بات ينتظرها على أحر من الجمر
 

ولعل ما يرهق التفكير حين ترغب في الحديث عن غزة وهمومها وتجد نفسك عاجزاً عن حصرها أو استحضارها في وقت قياسي لا لشيء، ولكن لتنوعها وكثرتها ولمجموعة الأبعاد التي تفرضها على مكونات الحياة، لاسيما أننا لو افترضنا النظر إلى قضية الوضع الصحي في غزة سنجد مَن حُرموا من العلاج لفقرهم، ومَن حُرموا من العلاج لمنعهم من السفر، ومن حُرموا لعدم وجود بدائل في غزة، ومنهم الكثير. وهذا بطبيعة الحال ينعكس على مكونات المجتمع. ولو تطرقنا لـ"مجتمع" الخريجين والطلبة والعمال والمهنين والتجار والموظفين الذين غيبتهم دهاليز السياسة في غياهب السجون نظراً إلى تراكم ديون استُحقت عليهم جراء تنكر الحكومات لحقوقهم، والتي إن صرفتها تصرفها منقوصة أو غير منتظمة، في الوقت الذي أصبح فيه هذا الموظف مثقلا بالديون ولالتزامات التي أنهكته وجاءت على مكانته المجتمعية، إضافة إلى التفريق الحاصل ما بين موظف غزة وموظف رام الله وموظف الحكومة في غزة عن نظيره موظف السلطة، لاسيما في أجواء مصالحة وحكومة توافق وطني، فلعلي، بكل صدق، أجد نفسي عاجزاً عن وصف الحالة بكل أبعادها وآثارها؛ ولكن ما لا يدرك كله لا يترك جله.

 
وهنا لا أجد نفسي متطرقا لغزة ومشكلاتها إذا لم أتحدث عن قضية أرهقت جميع من يقطنون غزة مرغمين إلى حد ما؛ فغياب الكهرباء عن غزة يومياً ما يزيد عن 20 ساعة مقابل وصلها 4 أو 3 ساعات يومياً لم يعد مقبولاً من المواطن، الذي بات ينتظرها على أحر من الجمر رغبة منه في شحن ما يستطيع شحنه أو الاستفادة منها في تيسير أمور الحياة، خصوصاً الأدوات والأجهزة التي ارتبط عملها بوجود الكهرباء. ولا أغفل هنا عن الحديث عن المريض الذي يحتاج الكهرباء والطالب الذي يحتاج الكهرباء والمصنع والمحل والمؤسسة وغيرها من مكونات الحياة هنا.
 
ويبقى سؤالي معلقاً لجميع الاطراف: ماذا تريدون لغزة؟ الأمر الذي جعلكم، وبكل قوة واقتدار، تكيدون لها كل هذا الكيد وتفرضون عليها معادلة الظلم هذه. والسؤال الأهمّ: أليست غزة من فلسطين؟ فما بال الساسة في فلسطين يضحّون بها ليرضي عدوها!؟

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.