شعار قسم مدونات

وسائل الانفصال الاجتماعي

Blogs- social
تنطوي التسمية الشائعة لوسائل التواصل الاجتماعي على غير قليل من التعمية والخداع، هذه الكتل البشرية القابعة وراء حواسيبها، والمشتبكة اشتباكا لم يعرف له التاريخ نظيرا، لا تفتأ تعيش غربة واغترابا، يعزل صاحبه عن نفسه وعن محيطه، قد تؤدي به نهاية المطاف إلى إدمان "التواصل" الاجتماعي المزعوم، ويعزله عزلا تاما في غرفته المظلمة، وأمام الشاشة المضاءة ليل نهار.
 
أصبح الناس يضيقون ذرعا بغيرهم، ويتوجسون منهم خيفة وإحراجا، فتنأى طائفة (في ازدياد مهول) بنفسها وبحواسيبها، وتلوذ إلى الافتراضي والخيالي، البعيد القاصي، إلى حيث يوجد أناس أُخر، ولا يوجدون. قد يفلح المرء في جمع مليون "صديق" أو أكثر أو أقل، يحادثهم ويعرض عليهم أواصر الصداقة، ويبثونه لواعجم وحميميتهم، لكن بمجرد أن ينطبق الجهاز، يتبخر كل شيء، ويعود الشخص إلى عالم الواقع، وحيدا غريبا متوحدا وربما كئيبا.
 
فهؤلاء الأشخاص الذين يراهم مثليه رأي العين، لا يهمونه في شيء، هؤلاء الأشخاص -بدءا بأفراد الأسرة ومحيط العمل- الذين هم من لحم ودم، ينتمون إلى عالم الواقع، عالم القسوة والجفاء، العالم المغبر، غير الملون، عالم المباشرة والمواجهة، بدون متاريس ولا مساحيق، ولا أيقونات، ولا روابط ولا كاميرات ولا"تلصّص" ولا فضائح، وبعبارة موجزة، عالم غير مُغر بالمرة.
 
من هذه النقطة بالذات يتم الانسلال الفردي (أصبح اليوم يتخذ شكل نزوح جماعي) إلى عالم "المُثل" (هل كان أفلاطون على حق!) عالم الحقيقة، عالم الشاشات، يغمسون فيها وجوههم غمسا. هل يستطيع الإنسان العيش في غرف بدون نوافذ؟ أبدا لا يستطيع ذلك، النافذة (رغم وجود الأبواب) طريق المرء نحو الحلم، والتطلع والخيال، الشاشة نافذة ذات أفق لا ينتهي (من الجحود إنكار النجاح الهائل الذي حققه نظام التشغيل نوافذ (windows) الذي حطمت به شركة ميكروسوفت كل الأرقام القياسية، فقد بُني على فكرة النوافذ غير المتناهية، واحدة مفتوحة على أخرى).
 

أصبح المرء كائنا مُفارقا لنفسه ولجماعته، يتطلع إلى الغائب، ولا يهمه الشاهد بأي حال من الأحوال
أصبح المرء كائنا مُفارقا لنفسه ولجماعته، يتطلع إلى الغائب، ولا يهمه الشاهد بأي حال من الأحوال
 

النافذة والشاشة هما سيان، كوّة في الحائط تؤجج الخيال وتجمح به نحو البعيد والمجهول، ثقب منفلت في الواقع، يُطل على الماوراء، على العالم الآخر المخفي، العالم البديل، العالم الرقمي المضيء الملون والمُثير. مع الثورة التكنولوجية الحالية، انضغط العالم في شاشة، وعبر هذه الشاشة، يستطيع المرء أن يعبر إلى هذا العالم، وأن "يتواصل" مع شخوصه، وكلما أغرق الشخص في الانغماس في هذا الاتصال، إلا وانعزل عن نفسه، وفارق الناس الذين يسعى للاتصال بهم، وحصر نفسه في محيط، لا يتعدى شاشة صغيرة، هي كل عالمه.

 
بهذا المعنى فإن التواصل يصبح انفصالا، والتقارب تباعدا، ففي المنازل التي يفترض أن يسكن إليها الناس، وفي المجالس (حتى مجالس العزاء والاجتماعات) وفي كل مكان تقريبا، يتحسس الناس النوافذ السانية في جيوبهم، و يتأبطون محمولاتهم، ويصمون آذانهم، ويشرعون في لعبة التقليب اليدوية، في انفصال فادح عمن يحاذيهم وفي إقبال ملفت على من يُباعدونهم.
 
أصبح المرء كائنا مُفارقا لنفسه ولجماعته، يتطلع إلى الغائب، ولا يهمه الشاهد بأي حال من الأحوال، وقد استطاع الإنسان أن يصل إلى درجة المفارقة تلك، "بفضل" الاكتساح التاريخي لآليات الانفصال الاجتماعي، التي منذ أشكالها الأولى، بدءا بالمذياع و الفونوغراف ووصولا إلى ماهي عليه من تطور فادح، ما لبثت تُمني المرء بالاتصال المغلف بالانفصال.
 
قد يصبر الناس على انقطاع الماء وتوابعه ردحا من الزمن غير قليل، ولكنهم لن يصبروا أبدا على انقطاع سيل الإنترنت، ونهرها الدافق، وعوالمها المغرية المثيرة التي تفصل المرء عن محيطه، شاء أم كره، وتضع بين يديه عالما بديلا ملونا ساحرا، يأخذ بتلابيب دماغه و فكره، وتمنيه بالعجيب والغريب الذي لن يحصل عليه أبدا بأي حال.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.