شعار قسم مدونات

في عالمي الموازي

blogs تفكير

كثيرا ما أشعر بأنني لا أنتمي إلى هذا الواقع، أو ربما أن هذا الواقع لا ينتمي لواقعي، أو ربما أن التسميات تشابهت والحروف تشابهت وما هي إلا مختلفة وبعيدة بعد السماء عن الأرض بل أجلَّ وأكثر، بتُّ أؤمن بأنّي وحدي من يعيش في ذلك العالم الموازي الذي ابتدعه وأوجده علماء الفيزياء النووية، حتى أنَّ عالمي الموازي هذا يختلف عن ذلك الذي اكتشفوه وتوصلوا إليه.

ها هي النيكتوفيليا تأخذ مفعولها، الأفكار تتقافز في ذهني وقلبي جاسئ يتمنى لو باستطاعته أن يهمس ولو بالقليل مما يثقل إيقاعه ولا يزال، فأين تذهب كل تلك التنهيدات والمونولوجات العميقة التي لم يحالفها الحظ بأن تعانق الفوهة، ربما تبقى تتكدس إلى أن يأتيها فرج المولى وتخرج، أو ربما تقطَّع إربا إربا وتخرج على مراحل، أو ربما تسكن وتنام هنيهة من الزمن، أو لعلها ما زالت تصارع لأجل البقاء بداخلك للأبد، فمهما حاولتَ أن تمسكها وتنتشلها تعود لتتغلب عليك كرة أخرى.

بتُّ أتساءل أين يكمن توأمي الذي أوهموني بوجوده، ذلك الإنسان الذي شاطرته الخروج من نفس مدفئي، الذي شاطرته الحنان ذاته والحضن ذاته، الذي شاطرته أحزانه وأفراحه ولا زلت أفعل، ذلك الإنسان الذي يحتفل بمولده في نفس التوقيت الذي أفعل، أوهموني بأن هناك من قلبه يشعر بقلبي، هناك ربما على تلك القارة المجاورة أو التي تجاورها أو التي تبعدها بقارتين.. يعيش من تمتد يداه لتطولني، وتخفف عني وطأة الأيام وصفعاتها .

أين تضيع الحقيقة التي واريتها وأخفيتها وراء كل مجاملة خشيةَ ألّا أحرج بها أحدا؟ تلك الحقيقةُ التي أخفيتها عندما قلت لجدتي ذات يوم بأن طعامها شهي إلى حد اللامعقول، لا بل ولكي أُرضيها وأؤكد لها صدقي عقبت على ذلك قائلا بأن طعامها هو ما يرغمني على الإتيان لزيارتها في كل مرة، فكم من وجبة تجرعتُها ومعدتي تكاد تخرجها وأنا أصارعها بزخم لم أفتعله من قبل؟

أحاسيسنا المرهفة، اهتمامنا بالتفاصيل، إدماننا المبهم للأشياء، تبريرنا الساذج الذي يحط في أرض الخطأ، كلها أشياء نزلت من سماء الخطأ إلى أرض الخطأ، فلعل مكانها هو ذلك العالم الموازي 
أحاسيسنا المرهفة، اهتمامنا بالتفاصيل، إدماننا المبهم للأشياء، تبريرنا الساذج الذي يحط في أرض الخطأ، كلها أشياء نزلت من سماء الخطأ إلى أرض الخطأ، فلعل مكانها هو ذلك العالم الموازي 
 

ذلك الطريق الطويل الذي أوهموني بأنني كلما مضيت فيه قدما اقتربت من نهايته، أشعر أحيانا وكأنَّ نهايته في عالم آخر، أو لربما أنني أحتاج أن أمشي وأهرول بخطوات أطول، وطولي لا يكاد يسعفني، فأجلس وأنا واقف، وأقف وأنا جالس، وأنتظر مدة أحاول التفريق بين الأحداث بمدة زمنية لأرى التتابع فأشعر بالخيبة وأنام.

ذلك الصديق الذي ودّعته يوما ما بابتسامةٍ باردة، كنت يومها قد وقفت أمامه، وأصغيت لكل كلمة قالها أو حتى كاد أن يقولها أو تقولها عيناه، أذكر يومها أنني كنت قد وقفت أمامه أسمعه بشغفٍ، كان رأسي ثقيلا يدور كالمدينة التي تنطفئ أضواؤها حينا ثم ما تلبث أن تضاء بإيقاع متناغم منسجمٍ يُولّدُ صداعا عجيبا، فكان رأسي يزيدُ الثقل، وجسدي هزيل لم يعد يتحمل الموقف والتعب، كان كل ما قد فعلَه يومَها هو البرود واللهو في الكلام، حتى أنني أعتقده يومها نسي ما جاء لأجله فلم يناقشني به بتاتا، كم كنت أتمنى أن تكون الأيام قد غيرته، فيعرف كيف الاعتذار وكيف يكون إصلاح الأشياء بعد فتورها وتمزيقها، علّه يكون قد تعلم ذاك وأكثر في عالم آخر، في عالمه الموازي خاصّته.

في ذلك العالم هناك حاسوب ضخم يتحكم فينا، فتجدنا وكأنَّنا قد نُوّمنا مغناطيسيا، وأصبحنا كالآلات تُدوّن كل شيء إلكترونيا، حتى مشاعرنا وأحلامنا باتت زائفة محوسبة، فقد فقدنا العلاقة بالمحسوسات من حولنا! أحاسيسنا المرهفة، شعورنا المضاعف، اهتمامنا بالتفاصيل، إدماننا المبهم للأشياء، اهتماماتُنا الفريدة، طريقتُنا في الحوار والجدال، تبريرُنا الساذج الذي يحط في أرض الخطأ، كلها أشياء نزلت من سماء الخطأ إلى أرض الخطأ، فلعلَّ مكانها هو ذلك العالم الموازي.

لعلَّ كل تلك الأشياء نهاياتها وحقائقها هي في ذلك الموازي، لعلي هناك وطيفي هنا أو العكس، لعل توأمي يبحث عني، والنهاية ترتقبني وانا أقترب، لعلَّني سأكافأ على تجرعي لطعام جدتي في مكان آخر وبعيد، مكان بعيد تضمحل فيه كل الروايات إلا روايتي هذه، من يدري لعلهم الآن يقصّون حكايتي ويحاولون الإتيان بي إلى عالمهم، لا أدري فلعلّي منهم وهم مني، من منا يدري إن كانوا حقا يخرجون للبحثِ عنّي في ذات التوقيت الذي أخرج فيه باحثا عنهم وعن عالمهم..!

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.