شعار قسم مدونات

انتفاضة إيران.. محاولة فهم

blogs مظاهرات ضد خامنئي إيران

توفر نظرية "التأطير وإضفاء المعنى" إطارا علميا لفهم الأحداث المتسارعة في إيران، بالنظر إلى عنفوان الانتفاضة، وسرعة وصولها إلى الأمد الأقصى من المطالب والكلفة، سواء على مستوى المضمون السياسي للمطالب "الموت لخامنئي"، أو على مستوى تقديم الشهداء، خلال عشرة أيام. المنتفضون في شوارع إيران، ضحايا "ظلم" الدولة بكل مؤسساتها، ويفهمون مركزية مفهوم "الظلم" في الثقافة التي ينحدرون منها، لذلك كان شعار "الموت ولا الظلم" أول نداءات التحشيد والتعبئة والتصعيد.

وقبل تحديد الموقف مما يعتمل في أرض "الولي الفقيه"، ينبغي أولا قراءة الأحداث في سياقاتها المحلية، التي تجملها ثلاثة معطيات، هي؛ إفلاس مؤسسات مالية تابعة للحرس الثوري وضياع أموال المودعين، انهيار مشاريع سكنية "مهر" و"شانديز"، وأخيرا قانون مالية 2018.
 

مشاريع الحرس الثوري

يسيطر الحرس الثوري الإيراني على أكثر من 40 بالمائة من الأنشطة الاقتصادية في البلاد، وتتنوع المؤسسات الاقتصادية التي يديرها من الفلاحة إلى الصناعة إلى التكنولوجيا، وبطبيعة الحال السكن والمصارف والمواد الاستهلاكية. في 2015 عاشت عدد من المؤسسات المالية التابعة للحرس الثوري صعوبات مالية انطلقت معها موجة احتجاجات محدودة بسبب حرمان العاملين من الأجور، تطورت فيما بعد إلى حرمان المشاركين من الأرباح، وحتى من استعادة أموالهم المودعة. في 2016 أعلنت شركات "كاسبين"، و"ملل"، و"البرز إيرانيان" (آرمان)، و"برديسبان"، و"بديده شانديز" (سنعود لهذا الاسم) بشكل رسمي إفلاسها.
 

الفساد الذي تورطت فيه مؤسسات تابعة للمرشد الأعلى للثورة، وجرائم النصب من طرف مؤسسات مالية يديرها خامنئي، شكلت وسط عيش ملائم لانفجار الغضب بهذه السرعة
الفساد الذي تورطت فيه مؤسسات تابعة للمرشد الأعلى للثورة، وجرائم النصب من طرف مؤسسات مالية يديرها خامنئي، شكلت وسط عيش ملائم لانفجار الغضب بهذه السرعة
 

انطلقت احتجاجات المتعاملين مع هذه المؤسسات، وكانت محدودة، وتمحورت في ثمان مدن إيرانية كبرى، هي طهران، وأصفهان، ومشهد، وكرمنشاه، وشيراز، ورشت، وأردبيل، والأحواز.. ما دفع إلى تنسيق جهود المتضررين، ليكون أول شكل احتجاجي موحد في أكتوبر 2017 في "مسيرة الأكفان"، واعتصم الناس أمام مكتب علي خامنئي المرشد الأعلى للثورة، وأمام البرلمان. في هذه الأجواء، خسرت 160 ألف عائلة في مدينة "مشهد" أموالها في مشروع "شانديز" السكني، تبعه انهيار عدد من البنوك الإيرانية التي أعلنت إفلاسها في نفس مدينة "مشهد"، حسب تقارير صحافية.
 

مشروع "مهر"

بعدها بأيام عاشت إيران زلزالا عنيفا، وبالضبط في نوفمبر 2017؛ فرغم أنه ضرب سبع دول إضافة إلى إيران، فإن حصيلة الضحايا تركزت في مدينة "كرمنشاه"، مئات القتلى وآلاف المشردين، بسبب انهيارات كبيرة في مساكن مشروع "مهر"، الذي أطلقته حكومة "نجاد" في 2007، وسلمت مساكنه حكومة "روحاني" في 2015. وكانت الحكومة الإيرانية سلمت 20 ألف مسكن من أصل 1 مليون و500 ألف شقة من مشروع "مهر"، وكان نصيب الأسد فيها لمدينة "كرمنشاه".

 
التقارير الرسمية قالت إن 90 بالمائة من مساكن مشروع "مهر" في مدينة "كرمنشاه"، انهارت بالكامل أو تضررت بشكل لا يجعلها قابلة للسكن. فإضافة للأموال المنهوبة، هناك مشروع سكني للحكومة قتل الناس، ورغم تورط الدولة في انهيار منازل "مهر" التي تولت هي بناءها، فإن غضب بسطاء المجتمع لم يحظ باهتمام الحكومة والنظام، ما حدا بالغاضبين إلى تصعيد شعاراتهم وصولا إلى قولهم "الموت ولا الظلم".

ميزانية 2018

لم يتوقف الأمر عند هذا الحد، فقد حمل مشروع ميزانية إيران لعام 2018، زيادات بنسبة 50 في المائة في أسعار المحروقات، وتقليص الدعم المادي للدولة لـ34 مليون مواطن، وزيادة نفقات الحرس الثوري والمؤسسات التابعة لمرشد الثورة خامنئي، كما أعلن موقع الحكومة الإيرانية، الثلاثاء 20 ديسمبر2017، وحذرت من تداعياتها صحف النظام كـ"دنياي اقتصاد" و"وطن امروز"، و"كيهان".

وأوضح موقع الحكومة الإيرانية، أن سعر البنزين سيصل إلى 1500 تومان للتر الواحد (ما يعادل نصف دولار أمريكي تقريبا) أي زيادة بنسبة 50 في المئة، والديزل سيرتفع إلى 400 تومان بعدما كان 300 تومان. وقال موقع "اقتصاد أونلاين" الإيراني في تقرير؛ إن متوسط الرواتب للعمال في البلاد يقدر ما بين 700 ألف و812 ألف تومان (180 إلى 220 دولارا). وكان "مركز أرباب العمل" الإيراني، قد قال في تقرير سابق، إن راتب 220 دولارا لا يكفي المواطن للعيش 8 أيام. في هذه الظروف ارتفعت أسعار المواد الاستهلاكية، بشكل أوتوماتيكي، حتى قبل تمرير قانون المالية في البرلمان.

 

الغضب الشعبي العارم الذي عبر عنه المواطن الإيراني، لا يمكن التقليل من حجمه، بل الواجب دراسته بهدوء وقراءة انعكاساته على مستقبل علاقة الشعوب مع الأنظمة بالمنطقة العربية
الغضب الشعبي العارم الذي عبر عنه المواطن الإيراني، لا يمكن التقليل من حجمه، بل الواجب دراسته بهدوء وقراءة انعكاساته على مستقبل علاقة الشعوب مع الأنظمة بالمنطقة العربية
 

وفق المعطيات أعلاه، يقول السياق الداخلي الإيراني، إن الفساد الذي تورطت فيه مؤسسات تابعة للمرشد الأعلى للثورة، وجرائم النصب والاحتيال وسرقة المدخرات المالية من طرف مؤسسات مالية يديرها خامنئي، إضافة إلى قانون المالية الجديد، شكلت وسط عيش ملائم لانفجار الغضب بهذه السرعة وبهذه الحدة. هذه المعطيات، قد تكون "فرصة سياسية" لا تقوم سببا للانتفاض في أي بلاد العالم، لكنها وبفعل عملية "إضفاء المعنى" وتكثيفه بخصوص مفهوم "الظلم" في حالة إيران كان سببا للانفجار الحالي، وحتما سيساعد في تقديم قراءة أقرب إلى الإنصاف لحالة شعب يدفع لوحده ثمن استقرار نظام حكم.

في المحصلة؛ انفجر الغضب، وتحولت المدن الثمانية التي وردت في بداية المقال إلى مركز ثقل الانتفاضة الشعبية الجارية، مما يوضح أسباب انفجار الانتفاضة في "مشهد"، واتسامها بطابع التصعيد الكبير في "كرمنشاه"، اللتان كانتا ضحيتين مباشرتين لممارسات النظام. هكذا يمكن الجواب بسهولة، عن سؤال لماذا توجهت أصوات الغاضبين وأياديهم رأسا إلى مرشد الثورة "خامنئي"؛ والمؤسسات الدينية والمدنية التابعة له، والحرس الثوري، والبنوك، وحكومة روحاني، فرفعت شعارات مضادة، بل ومزقت وأحرقت ونهبت ما طالته أيادي المنتفضين.

الغضب الشعبي الحاد والعارم الذي عبر عنه المواطن الإيراني، لا يمكن تبخيسه أو التقليل من حجمه، بل الواجب اليوم حتى قبل الاصطفاف معه أو ضده، دراسته بهدوء وقراءة انعكاساته على مستقبل علاقة الشعوب مع الأنظمة في المنطقة العربية، خاصة وأن صراع الإصلاحيين ضد المحافظين في 2009 كان أحد بواعث الربيع الديمقراطي الذي عرفته المنطقة العربية في 2011.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.