شعار قسم مدونات

النَسلُ الأدبي

blogs - يد تمسك قلم حبر
يكرر علينا أستاذنا عادل الأسطة، في محاضراته مقولة الناقد الفرنسي غوتة: (الأدباء الكبار ليسوا كبارا لأنهم جاؤوا بأشياء جديدة، إنما لأنهم أظهروا الأشياء القديمة كما لو أنها تظهر لأول مرة)، وهذا يسوقنا إلى مقولة سابقة للجاحظ: (المعاني مطروحة في الطريق، ويعرفها العربي والعجمي.. إنما الشأن في إقامة الوزن، واختيار السبك).
تشير النظريتان السابقتان إلى قضية مهمة في النقد الحديث، وهي قضية التناص، فاللاحق يأخذ من السابق، والسابق أخذ ممّن هو أسبق منه، فالعملية الكتابية والتواصلية بشكل عام عمليةٌ توالدية، فلا يتكلم ولا يكتب أحدٌ من بياض، مهما كان حجمه وقيمته الأدبية والاجتماعية والفكرية، ولم ينجُ من ذلك إلا سيدنا آدم عليه السلام، كما يقول باختين، مع أنني أرى أن سيدنا آدم لم يتكلم إلا بمرجعية، صحيح أن هذه المرجعية ليست أرضية، لكنها مرجعية عُلوية، من خلال الاتصال بين الله والملائكة، والعالم العلوي.. على أية حال يمكننا أن نذهب إلى ما أطلق عليه إلياس خوري في روايته الأخيرة أن (الأدب يولد من الأدب)، فكانت روايته أولاد الغيتو، وقبلها باب الشمس، ممتلئتين بالتناص مع الدّين والشعر والأدب والذات أيضا.

محمود درويش يقول في إحدى مقابلاته: (ما الشاعر إلا صدى لشاعر آخر يقرأ له)، ومن هنا يمكننا أن نفهم تأثره في بداياته بنزار قباني، ويمكننا أن ندحض ما ذهب إليه الشاعر الراحل أحمد حسين بأن درويش ليس إلا مُقلِّدا للشاعر الإسباني لوركا.. هذه التمهة (التقليد / السرقة..) كانت ولا تزال شغل النقاد الشاغل، فيما عرّفه عز الدين مناصرة بالتناص والتلاص..

أدعو إلى تحسين نسل النصوص، ولا أدري إن كنّا في عصر أدبي (صيني) بمعنى أننا نحدد النسل الأدبي كما حدّد الصينيون نسل أبنائهم، فالعبرة ليست في الكثرة، إنما في الفكرة

أبو فراس الحمداني وقف مُتَتَبّعًا لقصائد المتنبي، وكان يرى أشعاره انتحالا أو سرقة من أشعار الآخرين، ويمكن العودة إلى ميمية المتنبي الأخيرة في حضرة سيف الدولة، وقراءة المناظرة جيدا، التي تكشف عمق اطّلاع الشاعرين على الآخر، لكن على ما يبدو أن المتنبي كان كما وصفه درويش مرّة (أكثر حداثةً من الشعراء المُحدَثين)، حيث استطاع أن يخلق فنّا خاصا به، لينامَ (ملء عيونه عن شواردها)، ويسهر الخلق محاولين معرفته، وفهمه..

المتنبي في إحدى محاضراته أوضح موقفه من هذه القضية، فيقول مدافعًا عن نفسه: (رويدك، أمّا ما نَعَيتَه عليَّ من السرقة، فما يدريك أنني تعمدته، وكلام العرب أحذ بعضُه برقاب البعض.. ولا أعلم شاعرا جاهليا ولا إسلاميا إلّا وقد احتذى، واقتفى، واجتذب، واجتلب).. لم يُسعف أبا الطيب وجودُ نظرية تناصية في زمانه، لكّنه كان قد أرسى قواعدها تطبيقًا شعريًا قاصدا ذلك أم لم يقصد..

ميخائيل باختين كان أول من وضع حجر الأساس لهذه النظرية، التي بنَت عليه كريستيفيا، وتابع مشوارها بارت، وجانيت، وغيرهما.. وأنصفت النظريةُ التناصيةُ الأدباءَ، وأبعدت عنهم تهمة السرقة، وأنقذتهم من عقاب قطع العمل الأدبي، وانطلقوا في أعمالهم الأدبية، يحاورون ويتحاورون مع الآخر دينًا، أدبا، ثقافة، تاريخا، ومع ذواتهم، شعبيا، ونفسيا، وتوكيدا. فـ(نصّي فسيفساء من نصوص الآخرين) يقول محمود درويش. إذن الأدب متوالد، أبناؤه أخذوا عن آبائهم، وأجدادهم، وهم سيخلّفون لأولادهم وأحفادهم أعمالا أدبية كثيرة، لكنّ القضية تنتقل الآن إلى (كيف أستفيد من السلف، وكيف اُفيد الخلف)! فثمة أبناء (أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات)، إن الهدف من التداخل النصي أو الحوار النصي كما يسمّيه باختين هو الخَلق الجديد، أن نُنجب أعمالا تتلاقى مع حداثة العصر، وأن نأخذ من الأقدمين لتبني حضارتنا الجديدة، لا لِنقلّد أو نستعرض عضالتنا الثقافية..

هاجم الشاعر المصري صلاح عبد الصبور بعضَ شعراء العصر الحديث الذين يضعون اقتباسات فلسفية في أشعارهم لتصبح ذات قيمة، ويُشير إلى أن الهدف ليس الاقتباس، إنما ما يخلقه هذا الاقتباس من نظرة جديدة، وتَطلُّع إلى مستقبل أفضل، وهو ما يسميه أدونيس بالرؤيا الشعرية.

في نهاية مقالي هذا أدعو إلى تحسين نسل النصوص، ولا أدري إن كنّا في عصر أدبي (صيني) بمعنى أننا نحدد النسل الأدبي كما حدّد الصينيون نسل أبنائهم، فالعبرة ليست في الكثرة، إنما في الفكرة، في الصلاح والرؤيا، في معرفة ما سيخلفه طفلُنا الأدبي من أثر في المستقبل، ولا تكون أعمالنا الأدبية كحالة أمتنا (غثاء كغثاء السيل)!

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.