شعار قسم مدونات

الكتابة دورة حياة

blogs الكتابة

ما أشبه أفكارنا بنصوص مهملة تركناها يوما على أرفف الحياة، وحينما عدنا لقرائتها من جديد بعد فترة زمنية، اكتشفنا بأن أفكارنا قد تغيرت جزئيا أو كليا، وبأن نصوصنا السابقة لم تعد صالحة للنشر، فأفكارنا قد تعتريها عوامل التجوية والتعرية وقد تتأثر وفقا للخبرات المكتسبة، لذلك أعتبر الكتابة دورة حياة فكر لأننا من خلالها نلاحظ تلك المحطات الفكرية التي قد عبرنا ضفافها يوما وتلك المنعطفات التي قد مررنا بها صعودا ونزولا لنصل إلى مرحلة النضج الفكري.

 

فكم نحتاج إلى الكتابة بشكل مستمر لكي ندرك كم لبثنا في غياهب الحياة فعلى قدر تجاربك تكون سنوات فكرك، فوحدها الكتابة توثق وتدون أفكارنا لنستشعر من خلالها ما كنا وما أمسينا عليه، فحينما نجد في الفيس بوك مثلا إشعارات "حدث في مثل هذا اليوم" نستذكر معها شريط ذكرياتنا قبل عام أو عامين أو أكثر، تحوي أفكارا وآراء أو قناعات كانت أو ربما ما زالت تعبر عنا، فالكتابة حياة تدب في داخل عمق الأوراق، فثمر متى ما سقيناها من مشاعرنا وتترك بصمة متى ما نفخنا فيها من أحاسيسنا باختلاف منابعها الوجدانية من فرح أو حزن أو بارقة أمل تلوح في الأفق.

وكلما احتضنا بعمق تلك الأفكار الشاردة ودوناها على هامش صفحاتنا تكون أكثر دفئاً وأشد قرباً إلى النفس، ومتى ما تشبتنا بجنوننا انتعشت ذاكرتنا، فالكتابة بكاء من نوع مختلف، الكتابة اعتراف ضمني بأوجاعنا، الكتابة فضفضة أنيقة، ولغة تسعف من حرموا من لذة البوح، ودواء لداء الكتمان المثقل بالهموم، الكتابة مطر يسقى ظمأ أرواحنا العطشى، الكتابة عطر تفوح منه عبق رائحة المشاعر الدفينة، فلكم وددت الصيام عن الكتابة لأيام؟ ولكنني عندما رأيت بياض الورق المغري اشتقت لصرير القلم فنزفت.

 

في دورة الحياة ستجد أرواحاً عرتها رياح الحقيقة وأفئدة تتآكل بفعل الحسد وعقول اعتراها الصدأ، فلا تتوهم قطعاً بأنك تعرف ذاتك فبقدر سنوات عمرك ستدرك بأنك لا تعرف نفسك

فأنا أنثى حينما تشعر بالضيق وحينما يخذلني صديق، وحينما أشعر بنوبة عشق مجازية وحينما يحاصرني أصحاب الأقنعة المعجونون من الزيف والنفاق، لا أحتاج إلى وجود صديق، أنا أنثى حينما تشعر بالاختناق تبكي ما بين الحبر والأوراق، وفي محراب الكتابة أكون في عزلة أنيقة مع القلم والفكرة وأغوص في ذاتي أكثر، فالنفس هي تلك البؤرة الموغلة في العمق والتي كلما خلنا بأننا قد اقتربنا للغوص في أسبارها أدركنا بأننا قد ازددنا عنها بُعداً، فخفايا النفس كالأمواج الراكدة تُثيرها المواقف، لتشتد تلك الزوابع الداخلية ولتتوالى تلك العواصف الذهنية لكي تضعنا أمام تلك الحقيقة التي نخافها، ولتعري جهلنا الفاضح بمعرفة ذواتنا، والتي في خضم ثورة العواطف تشتعل كالبركان تارة وتردد تارة أخرى صدى تلك الأنا المتضخمة والخامدة أنا أو من بعدي الطوفان.

 

فالنفس البشرية أيضاً تطالها ما يعتري الطبيعة من العوامل، ففي دورة الحياة ستجد أرواحاً عرتها رياح الحقيقة وأفئدة تتآكل بفعل الحسد وعقول اعتراها الصدأ، فلا تتوهم قطعاً بأنك تعرف ذاتك فبقدر سنوات عمرك ستدرك بأنك لا تعرف نفسك وسيتجلى لك مقدار جهلك؟ وبينما أنت تحلق في السماء مستلقياً على الأرض ومفترشاً بعضك ستدرك مدى ضآلة حجمك وستلبس ثياب الزاهدين؟ وعبر ضجيج الحياة ستجد في نفسك عزلة المتصوفين، وعبر نافذة الروح ستستشعر تأمل الفلاسفة، وعبر جمال الطبيعة ستمتلك إحساس الشعراء الدفين، وفي حدة أطباعك سيتجلى جمود ابن الصحراء، وفي خضم جنونك ستُجسد تمرد الصعاليك، وفي تكبرك وتعاليك غطرسة الشياطين، وحينما تقترب من إنسانيتك فقط ستدرك يا صديقي معنى أن تكون إنساناً.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.