شعار قسم مدونات

إنارة معان.. وقفات للعقل والروح

blogs = كتاب مفتوح في الظلام
المتصفح لكتاب: "وقفات مع العقل والروح" لعبد الكريم بكار، يجد نفسه أمام بحرٍ لا ساحل له مِن الأفكارالتي طبعت الواقع المَعِيش، بالإضافة إلى كون الكتاب يجذب أنظارَ قارئه بأسلوبه الميسَّر، وبألفاظه الغنيَّة، التي لا يمكن إلا أن يَتَقَبَّلها الإنسانُ بارتياح كبيرٍ لأنَّ الكاتب اعتمد طريقةً مباشرةً في تناوله لموضوع الكتاب مِن مختلف الجوانب في الحياة المعاصرة، وتبليغها لأفكاره بطريقة سلسة هادفة.
ومِن ثم فإن هذا الكتاب يحتوي بين طياته أفكارًا يمكنُ اعتبارُها معالِم في طريق البناء، بناءِ الإنسان والمجتمع؛ للوصول إلى حضارة إنسانية عن طريق التكوين النموذجي للأجيال المقبلة، ومِن هنا أحبِّذ تسجيل أطروحتي ضِمن الأفكار والملاحظات التالية:

الملاحظة الأولى: اختيار الإنسان لرسالته ومكانته في المجتمع:
الله خَلَقَ الإنسان ومَنَحَهُ العقلَ؛ ليُفكِّر ويُقرِّر في اختياراته بنفسه، حتى يكون مسؤولًا عنها، وعلى هذا الأساس يكون التكليفُ، وفي هذا الاتجاه أشار الكاتب إلى رسالة الإنسان ومهمته في الحياة؛ حيث لَخَّصها في أن تكونَ له مهمة ورسالة يبني عليها حياته ويُكيِّفها؛ حتى يكون ناجحًا في تبليغها وتحقيقها، فإن حديث الكاتب عن أصناف الناس (كَوِّن مشروعًا – أو أسِّس مشروعًا – أو ساعِدْ في إنجاح مشروع)، يتولَّد عنه تحمل المسلم همَّ أمته ومجتمعه؛ امتثالًا لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (مَن لم يهتمَّ بأمر المسلمين فليس منهم).

وهذه الرسالة مِن أعظم المهمات التي كلَّف الله بها بني آدم، وهي وظيفة الأنبياء، ومَن لم يُحدِّد لنفسه مهمةً بين هؤلاء الأصناف الثلاثة فلا معنى لحياته، والإنسان المسلم كالشجرة؛ إن لم نستظلَّ بظلِّها أكلنا من ثمرِها، وإن لم نأكل من ثمرها اتخذنا عودها وقودًا لنا، ومن ثَم فإن الأمة تنجو بهذه الأصناف الثلاثة، وهذا سبيل العظماء للارتقاء الحضاري.

جاء التأكيد على القيم والمبادئ كحقائقَ مستقلَّة في التربية الإسلامية على تأثيرات الواقع؛ ليتمكن الإنسان بها أن يصون نفسه من الآثار السلبية خلال وجوده في بيئة منحرِفة

الملاحظة الثانية: تحديد منسوب الفَلَاح بالنظر للقرين:
الإنسان ليس بمقدورِه تحديدُ موقعه في سُلَّم النجاح، دون النظر إلى أقرانه ومَن حوله مِن الذين يشتركون معه في نفس المستوى ونفس الظروف؛ ولذلك وجَّهنا النبيُّ صلى الله عليه وسلم أن نُقارِن أنفسَنا إلى مَن دوننا فيما وهبنا الله تعالى مِن إدراكات وفوارق طبيعية؛ لنُدرِك نِعَم الله علينا، ومِن جانب المقارنة على صعيدِ الجهد والكسب علينا النظر إلى مَن فوقنا لتحديدِ مجالِ تقصيرنا وتصحيحها؛ لأن هذا مِن قبيل ما يُطاق وينال بالجهد،(وأن لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى) النجم39.

الملاحظة الثالثة: آفة إسقاط الأحكام انطلاقًا من تمثلات مُسبَقة:
إن إسقاط الأحكام يعني تعميمَها على الأشخاص والأشياء، يُعَد من أبرز المخاطر التي تُصيب الأفراد والجماعات، بإسقاط تجارب وأفكار مُعينة وخاصة على أشخاص آخرين؛ كأنهم قوالب متشابهة، وبذلك يتم تعميم أحكام قيِّمة، لكن عندما نُمعِن النظر فيها، نرى فوارق متعددة مِن خلال حالات معينة، فتكون النتيجةُ مختلفة. نلاحظ مثلًا عندما نقوم بزيارة مكان معين، أو نسمع خبرًا عن شخصٍ؛ إما سارًّا أو محزنًا،نطبق هذا الحكم وهذا الانطباع على أناس آخرين يشتركون أو يتقاربون في بعض الحالات والأوصاف.

الملاحظة الرابعة: أساسيات تربية الأبناء ومقوماتها:
التربية من أهم الأمور التي اهتم بها ديننا، باعتبارها الوسيلة الفعالة لبناء الأجيال وتكوين الخلف؛ حيث يعدُّ الأبناء لَبِنات بناءِ المجتمع، فإذا أحسنَّا تربيتها فإننا سنُحسِن بناء المجتمع.. الكاتب تحدَّث عن أمرين أساسيين في مجال التربية الحسنة؛ الإخلاص في العمل، وأن يكونَ العمل موافقًا للصواب، وهما ركيزتا كلِّ عمل ذي شأن في ديننا الحنيف، وذلك عبر أمرين مهمين:
1- دراسة الثقافة التربوية، وتعلُّم أدبيات التربية، فكل عمل في مجال معين دون علم بدقائقه وجزئياته يَصعُب إنجاحه ووضعه في الطريق السليم بعيدًا عن العشوائية والتخبُّط؛ و لأن النجاح في مثل هذه المجالات يحتاج إلى التخطيط، والتخطيط مبني على العلم.

علينا بمزيد من المطالعة والذَّود حول الكتب بحثًا في بطونها وبين طياتها عن كنوز المعرفة، ومناقشها وتوظيفها في الحياة لتنير لنا الطريق في الحياة العملية والعلمية
علينا بمزيد من المطالعة والذَّود حول الكتب بحثًا في بطونها وبين طياتها عن كنوز المعرفة، ومناقشها وتوظيفها في الحياة لتنير لنا الطريق في الحياة العملية والعلمية

2- اختيار البيئة السليمة لتربية الأبناء؛ حيث إنَّ المحيط والمجتمع والمكان تُحدِّد اختيار وتوجهات المربين ونمط تفكيرهم؛ قال تعالى: ﴿ أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ﴾ (الأعراف: 185)؛ ولا شك أنَّ الطفل يتأثَّر بالمحيط وينتفع به، فيسأل عما يراه ويشاهده مما يثير إعجابه واستغرابه، كما أن للوسط الاجتماعي الذي يعيش فيه الطفل تأثيرًا كبيرًا في بلورة سلوكه وبناء شخصيته؛ لأنه سرعان ما يتطبَّع بطبائع ذلك الوسط، ويكتسب صفاته ومقوماته.
يتمثل الوسط الاجتماعي الذي يعيش فيه الطفل في:
• الأسرة، وهي المحيط الاجتماعي الأوَّل.
• البيئة الاجتماعية.

جلُّ النكسات والنكبات والهزائم التي أصابَتْنا أمام الأعداء وسقوط الحضارة الإسلامية، كان أسبابها ذاتية وشخصية، ومعالجة هذه الآفة هي قطب الرحى ومربط الفرس

ومِن هنا جاء التأكيد على القيم والمبادئ كحقائقَ مستقلَّة في التربية الإسلامية على تأثيرات الواقع؛ ليتمكن الإنسان بها أن يصون نفسه من الآثار السلبية خلال وجوده في بيئة منحرِفة. فبالإرادة الذاتية المحصَّنة من تأثيرات المحيط، والثابتة على القيم السامية على واقع العالم المحيط بالإنسان، يتمكَّن الإنسان مِن الوُقوف في وجه الواقع المُنحرِف؛ كما جاء في حديث النبي صلى الله عليه وسلم وهو يدعونا إلى توطين النفوس: (لا تكونوا إمعةً؛ تقولون: إن أحسن الناس أحسنَّا، وإن ظلموا ظلمنا، ولكن وطِّنُوا أنفسكم، إن أحسن الناس أن تحسنوا، وإن أساؤوا فلا تظلموا)؛ الترمذي.

الملاحظة الخامسة: حلبة الصراع الحقيقي:
يعيش الإنسان في الحياة إكراهاتٍ ومعارك حقيقيةً داخلية وخارجية، إلا أن المجتمع لا يفطن إلى التحديات الداخلية التي تكون المعارك حولها أشدَّ ضراوة، باعتبارها الحلبة الحقيقية للصراع مع ما نعيشه مِن تخلُّف وتمزُّق، وهذا تحدٍّ كبيرٌ، كما ذكر الكاتب بأن التحدي ليس مع الشركات والأمم العظيمة، وإنما مع النفوس والأهواء والمكونات الداخلية، ومن ثَم فإن هذا يعد صراعًا من نوع آخر؛ صراعًا مع النفس ومع الذات لمعالجة أمراضها المستشرية التي تنخر جسم الأمة بَدْءًا بالفرد لتعمَّ المجتمع.

فجلُّ النكسات والنكبات والهزائم التي أصابَتْنا أمام الأعداء وسقوط الحضارة الإسلامية، كان أسبابها ذاتية وشخصية، ومعالجة هذه الآفة هي قطب الرحى ومربط الفرس، وعنوان التغلب عليها والتخلص منها قولُه تعالى: ﴿ إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ ﴾ (الرعد: 11).

والتغيير يكون من الفرد والنفس، ثم يشيع فيشمل المجتمع بشكل عام، وكلما قويت المناعة الداخلية كانتْ ضربات الخارج وصدماته دون جدوى؛ كالأزواج كلما اتفقا بينهما وستَرَا عيوبهما لا يقوى أحدٌ على زرع بوادر التشتت بينهما، بينما إذا شاع خبرُهما ولم يتَّفِقَا، حينئذٍ التدخل في شؤونهما، ولا سيما الأهل!

الملاحظة السادسة: القول الحسن من الكلم الطيب:
الكلام مِن نعم الله التي أنعم بها على الإنسان، فميَّزه على غيره مِن المخلوقات به، والله تبارك وتعالى خصَّ هذه النعمة بتوجيهٍ ربانيٍّ واضح يحدُّ إطارها بقوله: ﴿ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا ﴾ (البقرة: 83)، واالمسلم لا بد أن يُعوِّد نفسَه الكلام الطيب والجميل، يحمل فائدة ينتفع بها غيره ويسعد بها.

هذه مجرَّد بعض الأفكار التي راودَتْني واستلهمت خاطري أثناء مروري المتواضع على أفكار هذا الكتاب، من خلال مباحثه الواسعة التي تتَّسِم بحمولات فكرية وعلمية تلتقطها القلوبُ والعقول بالتشجيع والتأمل، وبذلك تكون هذه الأفكار عبارة عن إشارة ساطعة في الأُفُق تحثنا على مزيد من المطالعة والذَّود حول الكتب بحثًا في بطونها وبين طياتها عن كنوز المعرفة، ومناقشها وتوظيفها في الحياة لتنير لنا الطريق في الحياة العملية والعلمية.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.