شعار قسم مدونات

حرف الدال.. رسالة سامية أم مرتبة شرف؟

blogs دكتور جامعة

"أنا! دكتور جامعي! مستحيل! أنا الذي خرجت روحي من جسدي وأنا أريد أن أنهي الدراسة وأخرج من الجامعة بلا عودة، أن أكسر خلفي في ساحتها جرة عسى ألا تطأ قدماي أرضها مرة أخرى، وأنت تريدني أن أعمل أستاذا أو دكتورا بعدها! أنا طموحي أكبر من ذلك بكثير ولن أعود إلى ذلك المكان، لن أسجن نفسي خلف قضبان قاعة المحاضرات بعد أن يحكم علي بالحرية يوم تخرجي."

كانت هذه الجمل – خلال سنوات دراستي الجامعية الأربعة الأولى، بنفس ترتيبها، أو بتقدم كلمة على كلمة أو جملة على أخرى – هي الرد الصارم على كل من اقترح أو أشار علي أن أكون مستقبلا دكتورا أو أستاذا جامعيا، أن يكون أكبر طموحاتي وأعظم أهدافي أن أقف أمام طلبتي وأشرح لهم درس اليوم، ليتكرر ذلك الروتين بشكل يومي على المدى القريب، أو بشكل سنوي على المدى البعيد، معلومات ثابته تقريبا، لكن بوجوه جديدة تتغير أمامي بشكل دوري داخل فراغ محصور بجدرانه لا يتجاوزه.

 

إذا لم نستأصل خلايا الورم الخبيثة، مهما قل عددها، سنصل حتما إلى يوم تحتل فيه كامل أجسادنا فتقتلنا.. فلنعمل جميعنا على استئصالها، ولنعد للتعليم هدفه ومضمونه ومنزلته الرفيعة السامية

قد يتذوق البعض في حروف هذا الرد نكهة قسوة نوعا ما، وقد يعذرني البعض، ويراه ردا طبيعيا لطالب سئم الدراسة وبيئتها، أو لشخص رسم في مخيلته صورته يجلس على مكتبه في إحدى أكبر الشركات الهندسية العالمية، وكأن تلك الصورة كانت في مخيلته رمزا ومعنى للتميز وتعريفا لمفهوم النجاح والإبداع الذي يطمح وصوله، أو لشخص رسم في مخيلته صورة مغلوطة سببها كثرة ما يسمعه من شكوى وتذمر المدرسين في زماننا ودولنا فرأى في تلك المهنة المعاناة بعينها.. لا أدري السبب بالتحديد، ما أعرفه أن ردي هذا لم يكن له أي علاقة بقناعتي بأن مهنة التعليم أسمى المهن، وأن مكانة ورفعة المعلم لا تعلوها مكانة.

السنة الجامعية الأخيرة وحدها كانت كافية لتقلب تلك الجمل رأسا على عقب، لتفكك حروفها وتنسجها من جديد، لكن بطريقة مختلفة تماما عن السابقة. خلال تلك السنة، تجارب عشتها وقصص واقعية سمعتها كانت كافيه لتجتث تلك الفكرة الصفراء من ذهني وقلبي من أصولها وتقتلعها من جذورها وتغرس مكانها شتلة طموح خضراء جديدة، تجارب وقصص أحسستها وكأنها رسائل إلهية تخبرني وتعلمني بأنني خلقت فقط لأكون بإذن الله ومشيئته أستاذا ودكتورا جامعيا، منها على سبيل المثال هذه القصة:

أنا طالبة جامعية، متميزة طموحة مجتهدة مثابرة، طلب منا دكتورنا الجامعي في أحد الفصول مشروعا، ويبدو أنه كان يدرك في نفسه أن ذلك المشروع أكبر من أن نستطيع إنجازه في تلك المرحلة، بعد محاولات مني لإنجازه لم أستطع! تصفحت الإنترنت والكتب دون جدوى! فلجأت إلى صديقة لي في نفس تخصصي لكنها تكبرني بسنوات لمساعدتي وإرشادي، وكل هدفي أن أقدم مشروعا أتميز به وإنجازا يفخر به دكتوري، أسبوع كامل مر ومضى بأيامه، نجتمع فيها أنا وصديقتي يوميا، تساعدني وتعلمني، كان المشروع ثمرة لجهدي وتعبي وتوجيهها لي، حتى جاء ذلك اليوم المشؤوم! يوم تسليم المشروع!

قدمت المشروع كاملا – مع ضرورة الإشارة أنني كنت الطالبة الوحيدة التي قدمته – امتحنني الدكتور في مشروعي، لم أستغرب ذلك! حتى أنني استطعت أن أقرأ علامات الحيرة في عينيه، والتساؤلات التي طرقت جدران ذهنه فبدت واضحة في ملامح وجهه، "كيف استطاعت هذه الطالبة أن تنجزه!"، كنت متميزة في الإجابة والرد، نتيجة طبيعية لطالبة تعبت واجتهدت وتحرت مصادر المعلومة لتتقنها، حاول أن يغير ويبدل ويعقد الأسئلة إلا أنني استطعت بحمد الله وتوفيقه تجاوزها جميعها، وبدل أن يقابلني بابتسامة ومكافأة بعلامة ممتازة، فاجأني الدكتور، وأعتذر بشدة على وصفي له بالدكتور بالصراخ: "من اشتغل لك المشروع! وعند أي مكتب أو شركة ذهبتي لإنجازه؟! وماذا أعطيتهم بالمقابل! "حاولت الدفاع عن نفسي دون أدنى جدوى، فخرجت من مكتبه بصمت بعد أن توعدني بالرسوب! مصدومة أبكي بعد ذلك الرد الوقح، لتنتهي قصة مشروعي بمجلس ضبط واتهام بالغش حتى بعد محاولاتي الدفاع عن نفسي وإثبات أن المشروع كان ثمرة تعبي وسهري وجهدي!

هذه القصة ليست سيناريو مسلسل أو فيلم درامي يعرض على إحدى الفضائيات، هي قصة حقيقية مرت بها إحدى الطالبات، وأحد أبطالها للأسف "دكتور جامعي" تجرد من أدنى مسؤوليات مهنته وأخلاقها، ومثل هذه القصص حدث الكثير، بتغير أبطال الحكاية كل مرة، لكن ما يجمعها جميعها ذلك الوصف المرتبط بأحد شخصياتها، الدكتور فلان.

سأحارب الظلام بإشعال شمعة، وسأستأصل تلك الخلايا الخبيثة، فأصبح بإذن الله ومشيئته ذلك المدرس القدوة لتلاميذه، ذلك الدكتور الجامعي الذي يبحث في أبنائه الطلبة عن بذور الطموح والإبداع فيرويها

سألت نفسي.. أيمكن أن يتحول المتميز في جامعاتنا ومدارسنا بهذه البساطة إلى متهم! أيمكن أن يقتل المدرس بيديه إبداع طلابه! أيمكن أن يكون التعليم مجرد مهنة لا تتجاوز كونها وسيلة لكسب لقمة العيش؟ أم أنه في مضمونه أعظم وأكبر؟ أيمكن أن يكون الارتقاء على سلم الدرجات الأكاديمية مدعاة للكبر بدل أن يكون سببا للتواضع والإخلاص والأمانة؟ أيمكن أن تكون الدرجات العليا مجرد مرتبة شرف مجتمعية لا أكثر؟ وأن تتحول تلك الشهادات من رمز للمسؤولية إلى حبر على ورق لا أهمية لها سوى إبراز علو المكانة والمنزلة؟

قد يخرج من يقول بأني أتحدث عن فئة قليلة لا تمثل الأعم الأغلب.. جوابي هو.. إذا لم نستأصل خلايا الورم الخبيثة، مهما قل عددها، سنصل حتما إلى يوم تحتل فيه كامل أجسادنا فتقتلنا.. فلنعمل جميعنا على استئصالها، ولنعد للتعليم هدفه ومضمونه ومنزلته الرفيعة السامية.

ابدأ بنفسك أولا.. وأنا سأبدأ مثلك بنفسي.. سأحارب الظلام بإشعال شمعة، وسأستأصل تلك الخلايا الخبيثة، فأصبح بإذن الله ومشيئته ذلك المدرس القدوة لتلاميذه، ذلك الدكتور الجامعي الذي يبحث في أبنائه الطلبة عن بذور الطموح والإبداع فيرويها عساها تثمر جيلا على يديه يكون النهوض والتحرير بإذن الله.. سأدعم بكلماتي المتواضعة كل متميز، وسأثني وأقدر كل محاولة بسيطة لبذل مجهود.. وأنت أخي الأستاذ، وأنت أختي المدرسة.. لنكن جميعنا على قدر الأمانة والرسالة التي كلفنا الله بحملها..

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.