نتيجة تهدئنا وتبعدنا عن دائرة البحث عن الله كمادة خوفا من السقوط في الخطيئة، ذلك أن التجسيد الوحيد لله في عقولنا هو اسمه وغير ذلك ممنوع علينا التفكير فيه. وأنهي الحديث هنا بسؤال: كيف يمنع علينا التفكير في ذات الله وقد خلق لنا عقولا؟ أليست حكمته تعالى تدعونا برغبته تلك وإرادته تلك ومنحته لنا عقولا، نستخدمها في استيعابه كذات وصفات وندركه في حقيقته؟ لا سبيل إلى إنكار ذلك، خصوصا أنني بشري من صنع الله. إن ربنا عندما خلق الإنسان خلق إلى جانبه أشياء أخرى لا تحيا بماء ولا بتربة وإنما هي حية في أذهان مخلوقه المكرم بالبشرية.. فجاء البشر وكان قبله خلق آخر مميز عن الملائكة والجان والشياطين إنه الفكرة.
من كان يعبد بحق لا ينام عن صلاة الفجر ولا يشتكي من حر رمضان ولا يكذب ليسرق حلوى من يد طفل ولا يزني لاشتداد الرغبة في مكمنه ولا يقتل ولا يسلب ولا يخاف من مخلوق أن يقول حقا |
الفكرة خلقت قبل كل شيء ولست بالشجاعة الكافية اليوم كي أقول بأن الله يفكر لأن صفة الخلق لا يجب أن تلتصق بالخالق، وهي معادلة لا يجب أن يحملها المتدينون فقط بل حتى المشركون أو الباحثون عن الله.. فالخالق أزكى من كل وصف وأعلى من كل تفكير بشري ما دمنا لم ندرك بعد ماديا من أين أتينا بداية وكيف تم نسج حكاية وجودنا ومعيشنا بين العذاب والنعيم مرتين، الأولى في الدنيا والثانية وعد مؤجل التفعيل هناك في الأعلى..
نعم في الأعلى وليس في مكان آخر.. ذلك أن هذا الكم من الألم الذي نحيا فيه لا يمكن أن ينتج إلا عن سقوط مدوي من علو شاهق وهو ألم يدل على أننا نزلنا من علو شاهق لتنزع الرياح من على أجسادنا أجمل صفات السعادة ومنها الخير.. ويكفي أننا كلنا أبناء قاتل عشق توأمه فقتل أخاه هابيل الذي راح ضحية الطيبوبة بعد أن تقبل الله قربانه ولم يتقبل من الأخ المجرم الآخر الذي كان منبعنا جميعا.. ولا يجب أن ننسى أنه ندم بعد قتله ذاك وهي الفكرة التي تحدثنا عنها.. أي خلق سبق الإنسان وكل شيء لنجد أنفسنا نندم ونسعد ونضحك ونحزن ونبكي ونحب ونكره ونتألم ونقسو ونرحم.
وليس طرحنا لهذه الأسئلة نحن الباحثون عن حقيقة الله تطفلا عن ذاته أو تشكيكا في وجوده، فهذا من الجنون قوله.. إذ لا محيد عن أن لنا سبب خلقنا لأجله وهناك صانع في النهاية، إنما طرحنا لتلك الأسئلة هي بالدرجة الأولى محاولة منا التوصل إلى الإدراك الواضح لمن نسجد له ونصوم ونعبد، وهي راحة ستغنينا عن التوغل في الشك حتى في حقيقة وجودنا وستخلصنا من عذابات الضمير كلما حاولنا بدون قصد وبشكل آلي التفكير في شكل الله وصفاته وجلسته وطريقة كلامه، وهل يمكن من الأصل أن نصف صفاته بهذا الضرب من الكلمات؟
علماؤنا ومشاييخ الأمة دأبوا مند زمن على شرح أحكام العبادة، كيف تصلي وعدد ركعات كل صلاة، هل ترافق الحائض زوجها لصلاة العيد، واللباس الشرعي للمرأة المسلمة وأحكام الحج والزكاة والصوم والكفارة… إلخ، لكن هؤلاء لم يتجاوزوا مطلقا تفسير الأحكام إلى تفسير سبب وجودها ومراحله والغاية منه عبر البداية بأول تفسير وهو تفسير ذات الخالق بعلم يقين يجمع كل أسباب العبادة، مشاييخنا وزعوا مفاهيم الفرائض هنا وهناك وأحكامها، لكنهم أفقهوها لنا واتبعناها كما تعلمناها عادة وليس عبادة..
فمن كان يعبد بحق لا ينام عن صلاة الفجر ولا يشتكي من حر رمضان ولا يكذب ليسرق حلوى من يد طفل ولا يزني لاشتداد الرغبة في مكمنه ولا يقتل ولا يسلب ولا يخاف من مخلوق أن يقول حقا، ذلك أنه يعبد بحق ويدرك مصب العبادة يقينا بإدراك الله، وهو أقوى مراتب معرفة التجلي الحر لله أن تفهمه كموجود وتعبده حبا وليس خوفا وعادة.
الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.