شعار قسم مدونات

هل ينفصل التدين عن الأخلاق؟

Blogs- pray

ولكن هل ثمة تدين بلا أخلاق! لعل هذا السؤال العكسي هو ما سيرد به القارئ أولاً، ولذلك لعلي سأبدأ بالجواب عن مشروعية هذا السؤال، لما قد ما يثيره موجة من الانتقادات بحجة أن الإسلام جاء ليتمم مكارم الأخلاق، لو دققنا النظر فيه قليلا لرأينا أن التدين -وهو حالة التمسك بالدين وطرز من تطبيق الدين- تختلف من شخص لآخر، حيث تختلف تجليات الدين في الأشخاص كما في المجتمعات، فيتمسك البعض بجزء من الدين متناسين أجزاء أخرى منه، فيبدو تمسكهم بالدين أو يبدو تدينهم ناقصا، فالمقصود من التدين هو سلوك المرء الديني النابع من تصوره الشخصي للدين، وينتج هذا عن تضخيم جانب من جوانب الدين على حساب جانب منه.

        

فقد يكون التزام صورة من صور التدين في بعض الأوقات منافياً للجوهر الأخلاقي في الدين كما لو قام شخص بكثير من النوافل في وقت عمله أو قام بإنشاء مسجد في حين أن المسلمين يموتون من الجوع في بعض الأحيان أو -كما أخبرني صديقي- بأن رجلاً غنياً يكثر من بناء معاهد للقرآن ويترك عُماله في مصنعه في وضع يحتاجون للزكاة، في الظاهر هذه الأعمال تبدو محمودة، لكن ولأن ظرف زمانها يقتضي فعل غيرها فقد انتفت عنها -برأيي- صفة الأخلاقية، فإذا عرفت الأخلاق بأنها حسن التعامل، فإن حسن التعامل يحتاج إلى تقدير للزمان والمكان والأشخاص، وإن لم يكن ثمة تقدير حكيم لهذه الأشياء فقد انتفت صفة الأخلاق عنها.

          

ولعلنا نجد في بعض الأحاديث النبوية ما يدل على ذلك أو يلمح إليه فعن عائشة، زوج النبي صلى الله عليه وسلم قالت "دخلت على خويلة بنت حكيم بن أمية بن حارثة بن الأوقص السلمية وكانت عند عثمان بن مظعون قالت: فرأى رسول الله صلى الله عليه وسلم بذاذة هيئتها، فقال لي يا عائشة، ما أبذ هيئة خويلة؟ قالت: فقلت: يا رسول الله، امرأة لا زوج لها يصوم النهار، ويقوم الليل فهي كمن لا زوج لها، فتركت نفسها وأضاعتها، قالت: فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عثمان بن مظعون فجاءه، فقال:" يا عثمان، أرغبة عن سنتي؟ " قال: فقال: لا والله يا رسول الله، ولكن سنتك أطلب، قال:" فإني أنام وأصلي، وأصوم وأفطر، وأنكح النساء، فاتق الله يا عثمان، فإن لأهلك عليك حقا، وإن لضيفك عليك حقا، وإن لنفسك عليك حقا، فصم وأفطر، وصل ونم".

 

بالرغم من أن الإسلام يقيم الحكم على الظاهر إلا أن تربيته للدافع الأخلاقي وخضوعه على تطهيره كان هما من همومه لذلك بين النبي بـ "أن الأعمال بالنيات" فمهما كان عملك طيب الظاهر إلا أن النية هي الفيصل في تحديد الطيب من الطالح

إن تصرف الصحابي ورغبته في العبادة الكثيرة كان في غير موضعه لأنه أدى إلى تقصير أخلاقي في جانب مهم، ونفهم من تحذير النبي أن فعل الصحابي ليس في محله وأنه مناف لسنته عليه الصلاة والسلام، وأن سنته هي حسن التعامل وأن لكل مقام مقال ولكل ظرف زماني ومكاني خلق وفعل يجب القيام به وفي بعض الأحاديث رأينا الرسول يخفف من صلاته -التي نوى أن يطيل بها- لأنه يسمع بكاء الطفل، وفي هذا إشارة إلى أن الواجب الأخلاقي يفرض اعتبارات لا بد من اعتبارها والسير على أسسها.

          

ومن تتبع حال المسلمين اليوم نرى أن أسئلتهم تدور حول كون الفعل حراماً أو حلالاً، وعندهم قد يكفي كون الشيء حلالاً لمشروعيته لكن لا يخطر في البال السؤال عن الاعتبارات الأخلاقية لهذا الفعل، فقد يكون الفعل مشروعاً حقوقياً وفقهيا لكنه قد يكون غير أخلاقي، كما في بيع الشيء تقسيطاً بسعر مرتفع أو وضع نسبة من الربح مرتفعة، فالبيع بسعر مرتفع قد يكون حلالاً، كذلك الحال في الانشغال بالعبادات والصلاة وترك أمور البيت ومجالسة الأهل، فالواجب الأخلاقي يفرض أموراً قد لا يفرضها الواجب الفقهي.

           

كما تتبدى المفارقة بين السؤال الأخلاقي والسؤال الفقهي (حرام/حلال) في الدافع، فقد يكون العمل مكتسياً صفة المشروعية القانونية لكن الدافع إليه قد لا يكون صالحاً وهنا يأتي الإسلام ليذكره بأن " الله لا ينظر إلى صوركم ولا إلى أجسادكم ولكن ينظر إلى قلوبكم" وبالرغم من أن الإسلام يقيم الحكم على الظاهر إلا أن تربيته للدافع الأخلاقي وخضوعه على تطهيره كان هماً من همومه لذلك بين النبي بـ "أن الأعمال بالنيات" فمهما كان عملك طيب الظاهر، إلا أن النية هي الفيصل في تحديد الطيب من الطالح.

         

إن التركيز على سؤال الحرام والحلال قد يؤدي بنا إلى مجتمع الحِيل! الذي كان بعض من أفراده يبتكرون حيلاً للهروب من الزكاة، فظاهر عمله مشروع لكن الله هو من يطلع على عمله ويحاسبه على دافعه ونيته، أما التركيز على السؤال الأخلاقي والتصرف وفق منطقه فسينتج مجتمعاً يأتي فيه الرجل ليقر بذنبه وإن كان زنا كما فعل الصحابي، وإذا كانت بعثة النبي لإتمام مكارم الأخلاق فإن السؤال الأخلاقي هو الأسئلة المحفزة على التفكير والتحرك.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.