شعار قسم مدونات

عوائلنا وحنين النوق

blogs - عائلة سورية مهاجرة
تغدو الجغرافيا في عيوننا؛ عيون الثائرين المنسيين والمشردين في أصقاع الأرض سجنًا ممتدًا، وكوابيسَ في المنام واليقظة، وقيدًا يستحكم القلب فتتعثّر الخُطى، وتغدو الأوطان الجديدة زنازينَ لا نذوق فيها طعم النّور ولا نعرف فيها غير الزفير ـ إذ تركنا الشهيق هناكَ ـ رغم قصدِ السّائحين لها من كلّ فجٍّ عميقٍ لينهلوا نورها ونسيمها ويتذوّقوا جمالها، لم نكن لنبالي لو أنَّنا كنّا منبتّين عن أصلٍ أو موتورين بلا عوائل ننتسب إليها – وكم تمنّينا لو أنّنا كذلك – ليصبح التشرّد خفيفًا والرأسُ فارغًا والقلبُ بلا مهوى والممات سهلًا يسيرًا، لكننا كنّا عوائل محكمة السبك، متراصّة الوجود، ضاربةَ الجذر في عمقٍ لا يُرى، ثابتة البنيان على أعمدةٍ لم يتسرّي لخيالنا يومًا إمكان كسرها؛ فكانت الثورة اختبار العجز والصبر والثبات والانتماء، وما زلنا حتى الآن صامدين أمام اختبار تشظّي عوائلنا العظيم، وتمزّقِ أوطاننا الأولى، وانفجار النواةِ الأولى التي صقلتنا وصنعتنا؛ أسرنا الحزينة، يكبو القلب فيكاد يتهاوى لكنه سرعان ما يتجلّد.

يؤرقنا أكثر ما يؤرقنا حزن أمهاتنا والغُصص المتزاحمة في حناجرهن، والدّمع المختلطُ بسجادة الصّلاة في كلّ سجودٍ والنّشيجِ المعجونِ بأسمائنا التي غدت وردًا دائمًا في كلّ دعاء، ويحطّمنا عدمُ قدرتهن على الحديث إذا بلغ الشّوق منتهاه، وهل تعرفون ماذا يعني ألا تقدر الأمّ على الحديث مع ابنتها من شدّةِ الشّوق؟! ويكسرنا شرود آبائنا في الأفق وصمتهم الطويل، ومحاولاتٌ فاشلةٌ بإخفاء الدّمعة خلف ستارِ تقطيب الجبينِ والتجهّم المصطنع، لم تبقَ عائلة إلا انتُقصت من أطرافها في الداخلي السوري وخارجه، تهشّمت العوائل ما بين المناطق المحاصرة والمحررة ومناطق النظام، وما بين سوريا وبلاد المهجر، حتى إنك لتجد عائلة غدا كل ابنٍ منها في بلد.

أتقن المستبدون إشعال النار في القلوب الطّرية، كما هدموا البيوت على رؤوسنا فقد هدموا الأحلامَ الصغيرة، وقبلَ أن يمزّقوا النّسيج الاجتماعيّ في الوطن كلّه مزّقوا نسيجَ الأسرة الواحدة
أتقن المستبدون إشعال النار في القلوب الطّرية، كما هدموا البيوت على رؤوسنا فقد هدموا الأحلامَ الصغيرة، وقبلَ أن يمزّقوا النّسيج الاجتماعيّ في الوطن كلّه مزّقوا نسيجَ الأسرة الواحدة


لقد رمتنا المحنة جميعا عن قوسٍ واحدةٍ، فتفرّقنا في أصقاع الأرض، وغدا كلّ فردٍ في العائلةٍ على مواجهةٍ مع لسانٍ جديدٍ لم يتخيّل أن ينساق لسانه إليه يومًا، وأمام وجوهٍ لم يألفها من قبل، وفي خضمّ واقعٍ اجتماعيٍّ لا يعرف عنه شيئًا من قبل، لكننا رغم هذا لن نعتاد مآسينا، وسنُغرق العالم بحكاياتنا ومعانتنا، سنؤرّقه بتفاصيلنا الشخصية والعامّة التي أفرزتها الثورة، وسيتحمّل مسؤوليته عن كلّ ما نحن فيه، سنروي ونكتب ونصوّر بلا مللٍ أو توقّف. 
في كل لحظة يراودني طيف أبي وأمي وحيدَين بعد أن شيّعونا ما بين المقبرة والمهجر في بلادٍ شتّى في زمنٍ قياسيّ، تستحضرني صورة الشاعر العراقي عبد الرازق عبد الواحد جالسًا إلى زوجته أم خالد وحيدين بعدَ أن تفرّق أولادهم يُنشدها: 

وَأعلَمُ لا بَيْتي سَيَلْتَمُّ شَمْلُهُ
وَلا أهْلُ بَيْتي عائِدينَ لِمَنْزِلي

وَلا صَفْوُنا يا أُمَّ خالِدَ راجعٌ
ولا ضِحْكَةٌ إلا لمَحْضِ التَجَمُّلِ

" رغم كلّ هذا الزمن الممتدّ فإنّنا لم ندمن هجرتنا ولم نألف غربتنا ولم نستسلم لهذا التشظي، فقد حوّلنا وسائل التواصل الاجتماعي وبرامج المحادثة إلى مجموعات خاصةٍ بالعائلةِ نقضي فيها يومنا

وَلكنَّها يا أمَّ خالِدَ حَسْرَةٌ
هِثِمْتُ بِها ضِرْسي وَقَطَّعتُ أنْمُلي

ولو كانَ في سَفْحِ الدُّموعِ تَعِلَّةٌ
غَزَلْتُ دموعي طولَ عُمْري بِمِغزَلِ

وَأيْنَ، وَهَيْهاتَ الرُّجوعُ لِبَيْتِنا
لأولادِنا النّائينَ في كلِّ مجْهَلِ

وَحِيدَيْنِ نَبقى أُمَّ خالِدَ هَهُنا
نَحِنُّ حَنينَ النُّوقِ للزَمَن الخَلِي

عنون عبد الرزاق قصيدته هذه بـ "حنين النوق"، وحديث الشعراء عن حزن الناقة إذ تفقد أنباءها يملأ كتب العربية شعرًا ونثرًا، وكلّنا متحدّرون من تلك الصحراء العنيفون أهلها حبًّا وتعلّقًا والهشّون حنينًا وفقدًا، غيرَ أننّا كنّا نحسبُ في زمنٍ مضى أنه سيبقى حنين النّوقِ أشعارًا ننشدها في السّمر، أو حديثًا نتندّر به مستعرضينَ بلاغتنا في المحافل العامّة، أو سطورًا في كتب التراث المرصوفةٍ في المكتباتِ، لكن أن يغدو حنين النوق صبوحنا وغبوقنا وزفراتنا وأزيز صدورنا؛ فهذا ما لم يكن بالحسبان يومًا، وكان قد بدأ عبد الرازق قصيدته بقوله:

أجَلْ..
كلُّ هذا الهَمُّ يَوما سَيَنجَلي
فَقُل لِلَّتي تَرنُو إليكَ: تَحَمَّلي
أجَلْ
كلُّ هذي النَّار يَوماً سَتَنطَفي
وَتُبقي نِفاياتِ بِها العُمْرُ يَمْتَلي

نعم أتقن المستبدون إشعال النار في القلوب الطّرية كما أحرقوا في الديار، وكما هدموا البيوت على رؤوسنا فقد هدموا الأحلامَ الصغيرة للعوائل الغضّة، وقبلَ أن يمزّقوا النّسيج الاجتماعيّ في الوطن كلّه مزّقوا نسيجَ الأسرة الواحدة؛ فامتلأ العمر بالحسرات والزّفرات والهمِّ الثقيل.

لقد اقتلعتنا يدُ الجلّادِ من حِجرِ آبائنا ظنًّا منها بأنّ هذا سيكسرُ ظهورَنا وما درى أنَّ الظهرَ الذي اعتاد حملَ الهموم صغيرًا تقوّيه ضربات الطاغية، لقد وجدنا أنفسنا مزروعينَ في تربةٍ لم تألفها جذورنا، بعيدينَ عن اليد الحانية المتعاهدة زرعها صباح مساء؛ غيرَ أننا أيقنّا أنَّ الحياةَ ليست محضَ اختيار بل هي قدرُ الثّائر واللاجئ فضربنا في العمق جذورنا من جديدٍ، جذورنا التي يسقيها صوت الآباء والأمهات القادم من خلفِ قضبان الوطن الزنزانة رغم أنف السجان؛ فتزهرُ سقياهم ضحكاتٍ تغدو ضربًا من التحدّي وعنوانًا من عناوين الثّورة.

ورغم كلّ هذا الزمن الممتدّ فإنّنا لم ندمن هجرتنا ولم نألف غربتنا ولم نستسلم لهذا التشظي، فقد حوّلنا وسائل التواصل الاجتماعي وبرامج المحادثة إلى مجموعات خاصةٍ بالعائلةِ نقضي فيها يومنا مع الآباء والأمهات متحلّقين حولَ دفءِ كلماتهم كما اعتدنا التحلّق حول مدافئ الشتاء في الليالي الباردة، واصطنعنا لنا فيها هياكلَ عائلاتٍ تتواصل جماعيّا في إصرارٍ على مواجهةِ إرادةِ الطاغيةِ تشظّينا بإرادة الحياةِ التي تدفق في عروقنا ثورةً وفداءً، وكلّما أنهينا جولةً من المحادثات في مجموعة الأسرة التي تبعثُ فينا طاقةً وأملًا، وقبلَ أن نقومِ إلى مصارعةِ حياةِ التّشظّي الواقعيّ ردّدنا في أعماقنا بكلّ يقينٍ وحزم: "بدّك ترحل وبدنا نعيش".

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.