شعار قسم مدونات

للمدن لعناتها أيضاً

blog- مدينة غزة
لشخصٍ مثلي كان حظه من الحياة أن ينشأ في مساحة لا تتجاوز 360 كم في ظروفٍ بالغة التعقيد، حتى دفع ذلك أحد الظرفاء أن يقول "قطاع غزة من السلك للسلك نص ساعة بالسيارة"، هذه المدينة المتناقضة حد الوجع، ولأن الإنسان ابن لبيئته بشكل من الأشكال تجلت في ساكنيها تلك القدرة العجائبية على التأقلم مع ظروفها المتقلبة ومزاجها الحاد.
الخروج من هذه البقعة للعالم الواسع مخاطرة لا بد منها، لكنها على الرغم من هذا التجاوز الجغرافي المؤقت تسكن بشكلٍ ما فيك، بمجرد أن تحزم حقائبك تقفز المدينة إلى إحدى الجيوب وتختبئ، وكلما ظننت أنك خطوت للأمام خطوة أطلت برأسها لتقول لك: ها أنا ذا! وإن حالفك الحظ واستطعت أن تتسرب كالماء حاملاً جواز سفرك وذكرياتك الثقيلة وأحلامك البكر منطلقاً نحو إمكانات لم تكتشف بعد، ومساحات خضراء للتجربة والاكتشاف والاقتراب من الذات، تجد أن أي محاولة تفضي للأخرى، ففي خلاصك الفردي الذي تسعى من خلاله وبه لبلورة تجربتك الشخصية لا محال سوف تولي وجهك نحو مواطئ القدم الأولى!

الحياة في غزة مفصلةٌ على نحو ما، تظن في بداية الأمر أنك قادر على خلق مساحاتك الخاصة ولكن لاحقاً يتداعى هذا الخيط الرفيع بين الخاص والعام، على نحو هلامي لا تستطيع معه استيضاح الأشياء، فضلاً عن استنطاقها، هذه المدينة ذات الجدران الأربعة مقفلة الإحكام فلا يمكنك أن ترى ثقباً لمفتاح أو مخرج ما، غارقة حد الثمالة في دراما موجعة لا تخلو في بعض الأحايين من "قفشات مضحكة"، ورحم من قال: "هم ببكي وهم بيضحك".

ما بين نقطتين عدادٌ يمتص الحياة، يحولها إلى تابوت مغلق لا تنفذ إليه شمس أو نور، وكلما هم أحدهم برفع رأسه حصدته المناجل كسنبلة قمح قبل أن يكتمل النمو فيضيع الحصاد

في هذه المساحة المحدودة لن أخبرك عن أحلام شبابها التي تبخرت في الهواء فجعلته مثْقلاً بالخيبة، ففي مواسم المطر القادمة لا تتعجب إن سقطت قطرة ماء كالعلقم واستقرت في حلقك، ولن أحاول إسماعك آهات العجز لدى أصحاب المرض -ومنهم أطفال لقوا حتفهم قبل أن يتعلموا الصراخ في وجهنا جميعاً- ولن أطلعك على الجداول الكثيرة التي تحكم جو المدينة وتزيد في إغراقها في ظلام لا يبدو أنه سينتهي في القريب، وكيف لي أن أشرح لك حجم القهر والغضب ويأس الإرادة بعد فقدان القدرة على الفعل والكفر بكل ما كان (مقدساً) أو لا يقبل النقاش!

الإنسان الذي تشرق عليه الشمس صباحاً في تلك المنطقة التي يحدها البحر، والتي في زمن ما كان المتنفس الوحيد لدى ساكني هذه المدينة، لكنه – البحر- لئيم على غير عادته ويتساءل الفلسطيني هناك: حتى أنت يا بحر تطعننا في الظهر.

غزة التي لا تزال تتنفس شيئاً ما، فلنقل هواءً ملوثاً بكل أسباب الوفاة، والتي تتفقد عدد أبنائها كل يوم فتشكر الله أنهم ما زالوا على الأقل يتنفسون شيئاً ما، هذه الأم التي تنظر بعين القلق فلا تدرك بعدها كيف كانت البداية، ولا تملك الجرأة على سؤال نفسها ماذا ستكون النهاية، أما ما بين النقطتين عدادٌ يمتص الحياة، يحولها إلى تابوت مغلق لا تنفذ إليه شمس أو نور، وكلما هم أحدهم برفع رأسه حصدته المناجل كسنبلة قمح قبل أن يكتمل النمو فيضيع الحصاد!

غزة التي تسكنها في ليالي كثيرة أصوات مزعجة خارجة عن أي منطق تأتي لتؤنس ساكنيها وتذكرهم بأنهم ما زالوا هدفا شهيا طالما لم يبتلعها البحر
غزة التي تسكنها في ليالي كثيرة أصوات مزعجة خارجة عن أي منطق تأتي لتؤنس ساكنيها وتذكرهم بأنهم ما زالوا هدفا شهيا طالما لم يبتلعها البحر

لكن غزة ليست هذا فحسب، على الأقل غزة التي أعرفها، متناقضة في ذاتها وطبيعتها تحتفي بالموت والحياة في آن واحد، المدينة القديمة، شارعها الرئيسي الممتد من قلبها (عمر المختار)، ميدانها وتمثالها (العنقاء) الذي يذكر بها على نحو خاص أليست كل مرة تعيد خلق نفسها من رمادها هي بالذات، الباعة المتجولين وأصوات السيارات التي لا تهدأ. وجوه السائقين وصالوناتهم المتنقلة التحليلية لكل ما هب ودب والذي يشارك فيه الجميع برأيه دون استثناء، كعك الصباح الطازج، كأس الشاي وباقات النعنع، سوق الزاوية الذي يمسك التاريخ من أحد أطرافه، شارع فهمي بيك وبيت العلمي والبيوت القديمة والكنيسة التي تنام جانب المسجد منذ أمد لا يذكره أحد، دور السينما النصر والسامر التي لا تزال تنتظر.

غزة تستحق الحياة لأنها جديرة بها، قبلاتٌ وشوقٌ لن يهدأ، حتى نعود جميعاً، حتى نملك من جديد حق الغضب عليها، حق سبها ولعنها عندما تضيق بنا كأي بلد طبيعي

دوار عسقولة وحواري المدينة ورجالها الذين يجلسون كل عصر على الطرقات يناقشون كل شيء ولا يصلون لنتيجة، أطفالها الذين تهزمهم بعض جولات الكرة والبنانير (القلول) ولا تهزمهم الطائرات، حوائطها المزينة بصور الشهداء ولغتها الخاصة، بحرها ومينائها حكاية أخرى، رمزون السرايا وساحته التي تقبل الجميع باختلاف الزمان! بداية شارع الرمال المفضي لمحل البوظة الأشهر بالمدينة (كاظم) والذي ستمر عليه حتماً في أمسيات المدينة الضجرة، والشارع الممتد بعده والذي لو سرت فيه لنصف ساعة لا أكثر أزعم أنك سترى كل معارفك وأصدقائك هكذا بالصدفة دون تخطيط مسبق.

غزة التي تسكنها في ليالي كثيرة أصوات مزعجة خارجة عن أي منطق تأتي لتؤنس ساكنيها وتذكرهم بأنهم ما زالوا هدفا شهيا طالما "لم يبتلعها البحر"، ثوبها المطرز وأهازيج جداتنا وحكاياتهم التي لا تنتهي ودعائهم كالماء المقدس "يرضي عليك يما ويفتحها بوجهك" يخلق صباحك على نحو مدهش، أشجار زيتونها المتبقية والتي تحتفي على طريقتها، زعترها وزيتها وموائدها العامرة بكل ما لذ وطاب، المفتول والأرز الأصفر والفتة التي تعمر موائد الجمعة بعد الصلاة.

هذه المدينة التي لم يفقد أهلها بعد رغبتهم في الحياة، فلا يتوقفون عن الإنجاب حتى تعتريك الدهشة، كيف لبيت واحد تقطنه كل هذه الاحتمالات فهي لا تزال تسري رغبة ما في التغيير – أصابها يأس نعم – لكنها لم تمت فما أكثر قصص نجاحها، في المدينة تكفي ربع ساعة ليشيع خبرٌ ما أو نميمة بين جارتين في أطرافها قاطبة، للمدينة لؤمها وأسرارها وساذجتها وانكساراتها، للمدينة روحها وشبقها ورغبتها التي تشتعل في الخفاء، للمدينة نقمها وخيباتها وآنّاتها الصامتة، للمدينة تساؤلها الوحيد "هل نسيء إلى أحد؟ هل نسيء إلى بلد؟ لو أصبنا ولو من بعيد ولو مرة برذاذ الفرح"!

أتذكر وجه مدينتي الأولى، بمرارة تشوبها أسى، هي تغلق بابها في وجهي بغير قصد منها، في السنوات العجاف تهرب بعيداً لتحاول كسب استحقاق المستقبل، لا رغبة في الجفاء أو البعد، تقول في نفسك علّ يوماً ما تخلع المدينة عنها ثوبها الأسود، علك يوماً ما تساهم ولو بالقليل في حياكة ثوبها المزهر، وحتى ذلك الحين تعود بخفي حنين كل محاولاتك في إكساب ما يحدث أي منطق، وهو بالذات عارٍ عن أي منطق.

غزة تستحق الحياة لأنها جديرة بها، قبلاتٌ وشوقٌ لن يهدأ، حتى نعود جميعاً، حتى نملك من جديد حق الغضب عليها، حق سبها ولعنها عندما تضيق بنا كأي بلد طبيعي، حق البكاء على بابها في المساء نحمل بين أيدينا ما تيسر من زهر الأقحوان ونعتذر طويلاً عن حماقاتنا لتدخلنا المدينة "مرضيّن" إلى ليلها الطويل.. المدينة التي تهمس في آذاننا جميعاً "محروسين بالبحر.. ومهما بعدوكن.. أنا ناطرة وأنتو جايين".. غزة

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.