شعار قسم مدونات

سوريا.. مشهد ما قبل النهاية

بشار الأسد وفلاديمير بوتين
شهدت سوريا خلال السنوات السبع الماضية تحوّلاتٍ كبيرة، وضِعَ شعبها في أقسى الظروف على مرّ التاريخ، ووضعت المنطقة لأجلها أمام عدة خيارات أخفّها التقسيم والتشظي، ولا حدود لحجم الانفجار الذي سيحدث ما لم يتوقف الجميع عن التصعيد.
بدأت روسيا والولايات المتحدة الأميركية دعمهما لجميع الأطراف مع بداية الحراك الشعبي، لركوب الثورة والعبور عليها إلى مصالحهم، متخذين شبابنا المندفعين وسيلةً لمصالحهم الخاصة، وتحويل الثورة السوريّة الشعبيّة التي خرجت لأهداف سامية من حرية وعدالة اجتماعية إلى حربٍ طائفيّةٍ لا تبقي ولا تذر، دُعمت جميع الأطراف المتواجدة في المنطقة بلا استثناء، واستخدمت جميع الطرق والوسائل المباشرة وغير المباشرة في تقديم الدعم للحصول على مشهد حقيقي أكثر دمويّة. يتبادل كلّ الأطراف اتهامات الخيانة والعمالة والتآمر؛ لتغذية عناصر الفرق المتصارعة بروح المقاومة، والصبر في القتال حتّى الموت دون استسلام.

توزّعت الفرق المتصارعة أخيراً على الخارطة السوريّة، وحجزت كلّ فرقةٍ لوناً خاصاً، حبست ضمن حدوده طائفةٌ معينةٌ، تكنّ العداء لجميع من حولها. هذه الأطراف الساعية إلى التمدد على حساب الآخر، فتنصب على حدودها نقاط الرباط، وتأمل بالتوسع كلّ حين على حساب جيرانها؛ بعد أن كانوا في الأمس القريب أبناء وطن واحد، قبل الثورة السورية، فتنجح بالتوسع أو تفشل في معارك دمويّة يذهب ضحيتها الشباب المندفعة، وتدكّ البنية التحتية للمدن والبلدات المتصارع عليها.

وُضِع المواطن السوري خلال هذه الثورة أمام عدة خياراتٍ دمويّةٍ، وعليه أن يختار دائماً بين الصعب والأصعب، بين الحصار أو القصف، الحرب أو الهجرة، القتال أو الأسر، الاعتقال أو المقاومة. ولن يترك وشأنه على هذا الصفيح الملتهب، لأن الأكثر يعتقد بقاعدة: "إن لم تكن معنا فأنت ضدنا" فكيف له أن يرضي جميع الأطراف في آن واحد؟ ونالت لأجل ذلك الفئة الرمادية حظّها من تبعات الحرب مع التهميش والتهجير والاعتقال، ولم ينفعها حيادها بل كان مصدر شقائها.

ولدت اتفاقية تخفيض التوتر في الجنوب السوري، وينتظر السوريون ما قد تتمخض عنه الأحداث في خاتمة المطاف، وطرق تطبيق ما أسفرت عنه المحادثات الأميركية الروسية الأخيرة

وصل السوريون اليوم إلى ما يسمى مناطق خفض التوتر المتفاوض عليها في العاصمة الكازاخية آستانة، ويرعاها كل من روسيا وتركيا وإيران، شعر السوريون في هذه الفترة ببعض الأمن، بعد توقّف الطيران منذ التدخل الروسي المباشر لصالح النظام، ووجّه الضربات الموجعة للمعارضة وحدّ من تقدّمها، ويبدو أنّ هذه الفترة من خفض التوتر ستستمر مع عملية سياسية يفصح عنها دي مستورا كلّ حين، ومع لقاءات سرية بين الولايات المتحدة وروسيا بين الحين والآخر.

اغتنمت إيران خلال هذه الثورة الخلاف التركي الأميركي، لتتمدد في مشروعها الطائفي بغطاء روسي، بينما خسرت تركيا حليفها الأميركي بعد دعم الولايات المتحدة للانقلاب الفاشل منتصف عام ٢٠١٦م، مما زاد في تعقيد المسألة السوريّة، وأصبح التخلص من الإيرانيين يشكلّ عبئاً على الروس أنفسهم لعدم توفر البديل على الأرض، وخاصة أمام مارد الإسلاميين؛ الذي سمح له بالخروج من المعتقلات السياسيّة الكبيرة مثل (صيدنايا وأبو غريب)، وسمح لهم بتشكيل قوة لا يستهان بها عن طريق التغاضي عنهم تارةً، ودعمهم غير المباشر بصفقات مالية، وتمرير السلاح لهم عن طريق قنوات من الجيش الحر الأضعف في الشمال السوري معقل المعارضة السورية.

سمحت تركيا لحدوث تلك العمليات الخطيرة على حدودها مع إحكام إغلاق الحدود للمحافظة على من تبقّى من السنة في الشمال السوري، أمام تمدد المشروع الكردي الانفصالي. أما تهديد الهلال الشيعي الذي اقتربت إيران من تطبيقه في منطقتنا، وقيامها بالعمل على وصل العراق بلبنان. والرهان التركي على الفصائل الإسلاميّة والمعارضة المعتدلة في آنٍ واحدٍ، مردّه إلى أنّ الأول قادرٌ على الوقوف في وجه إيران بعد استحواذ مقاتليه على العتاد، وتراهن في الوقت ذاته على المعارضة المعتدلة الأقرب لإدارة هذه المنطقة في المستقبل أمام الرأي العالمي بعد الحرب. ولدت اتفاقية تخفيض التوتر في الجنوب السوري، وينتظر السوريون ما قد تتمخض عنه الأحداث في خاتمة المطاف، وطرق تطبيق ما أسفرت عنه المحادثات الأميركية الروسية الأخيرة.

قضى كبار المسؤولين في وزارة الخارجية الأميركية مثل مايكل راتني وبريت ماكغورك الشهور في مفاوضات مباشرة مع الجانب الروسي، وكيفية إدخال الواقع السوري الدامي في فترةٍ انتقاليةٍ من الاستقرار البطيء، ويتوقف نجاح هذا المسار على قدرة روسيا على كبح ميليشيات الشيعة المتقدمة من الشرق بعد هزيمة داعش في الموصل والرقة، وقدرة الأتراك الاستمرار في مسك عصا المعارضة من الوسط، وإلا فالانفجار الأخير سيطيح بالخارطة من جديد.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.