شعار قسم مدونات

التموقع الحاد.. مرض الأيديولوجيا

blogs الاختلاف في الإيدلوجية

التموقع الحاد حالة باثولوجية تصيب غالبية المؤدلجين الجدد، تَقَدُّمِيين كانوا أم مُحَافِظين؛ فلا تراهم إلا وهم يَـفْـلُون سلة المهملات الخاصة بالتيار الذي يكرهونه؛ يبحثون عن بقايا أو جزئيات يستطيعون بها إدانة الطرف الآخر بأي شكل من الأشكال دونما اهتمام منهم لمدى اكتمال شروط المحاكمة الفكرية العادلة؛ فلا يُهمهم شيء غير استمرارهم في العثور على تلك البقايا؛ متجاوزين بذلك الدور الحقيقي المنوط بهم ألا وهو تقديم البديل المتماسك، البديل الفعّال.

فها هو ذا علماني حديث الأسنان يعيش حالة من الهوس بنبش قبور التاريخ الديني؛ يقضي ساعات طوال في هدم جدران الأطلال، وليس بمقدوره تقديم حل لأبسط المعضلات المجتمعية التي تحيط به، إلا بمقدار ما ينسخه لك من فلاشات سريعة عن تجارب شعوب بعيدة كل البعد عن خصائص مجتمعه. وذلك متدين طافر العاطفة لا يجيد من أمر دينه غير تتبع عورات التقدميين وسقطاتهم، وعند سؤاله عن كيفية بناء النظم والمؤسسات الاجتماعية تِبعا لأطروحته الدينية تصيبه بما صنع قارعة أو تحل قريبا من أفكاره.

إن أزمة التموقع الحاد باتت من أبرز القضايا الرئيسية التي يجب أن تُرفع على واجهة الاهتمام الأكاديمي باعتبارها البداية الحقيقية لمعظم حالات الاستقطاب العنيف في عالمنا العربي

وقد أمدّتنا تجارب الربيع العربي بعديد الأمثلة بخصوص حالة التموقع الحاد هذه؛ حتى أن الرئيس التونسي السابق (منصف المرزوقي) قد تفطّن ونظر لأمر هذا التجاذب الحاد -بوصفه أحد ضحاياه- على أنه حالة من التعايش المَرضي أو الفُطري بين أقطاب متنافرة في ظاهرها متصاهرة في باطنها؛ فقال في هذا الأمر مقولة تستحق التأمل، حيث شبه هذه الحالة الفكرية الغريبة بالتوأم السيامي حين قال "لا أبعدَ من إسلامي متشدد عن حداثي متشدد في الظاهر.. وفي العمق لا أقرب لحداثي متشدد من إسلامي متشدد. إنهما توأمان مشدودان من عظم الصدر وُلِدا من نفس رحم الفكر الشمولي، وكل واحد مآله الموت إن فصلْته عن نصفه الآخر، لأنه لا يوجد إلا بوجوده ولا يتواصل إلا بتواصله".

ويزداد خطر هذا المرض الإديولوجي الذي وَصَّفه السيد (منصف المرزوقي) حينما ينتقل به أصحابه من على منصات التواصل الاجتماعي والتداول الشُلَلِي إلى طور الممارسة والتهييج السلوكي، من خلال فرض تلك الفلاشات الفكرية اللابنيوية باعتبارها هي الحل الوحيد لكل مشكلات المجتمع؛ مع إسنادها بالقوة المادية التي قد تصل في بعض الأحيان إلى قتل أو حبس الأخر الذي يتقدم بحلول مختلفة. وفي ظل هذا المناخ المتهيج ينمو النشاط الميلشياوي وما يرافقه من أشكال الإرهاب المنظم.

أزمة التموقع الحاد باتت من أبرز القضايا الرئيسية التي يجب أن تُرفع على واجهة الاهتمام الأكاديمي باعتبارها البداية الحقيقية لمعظم حالات الاستقطاب العنيف في عالمنا العربي؛ ونحن إذا وضعناها بين يدي الأكاديميين دون سواهم فلعِلمنا بأن الأدوات المنهجية المتوفرة لهم هي الوحيدة القادرة على تحليل وتشريح هذا المرض الإديولوجي من خلال الفرضيات التي تقفز على تلك التحيّزات المذهبية والطائفية، إلى فضاء أرحب يُعرّف فيه التفكير السليم -سواء كان علمانيا أو دينيا- بأنه ذلك الطريق الذي ينمو ويتمدد بهدوء ضمن إطار مشروع أو رؤيا متكاملة حول قضية أو قضايا معينة؛ وليس مجرد ردّات فعل عاطفية تنبت سريعا كما الأشواك على جنبات الطريق الذي يرسمه الآخر لفكره وبفكره.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.