شعار قسم مدونات

الجاحظ وبخلاؤه

blogs - بخلاء الجاحظ
كانت لدينا في مكتبة البيت المتواضعة كتبٌ متفرقة في الدين، واللغة، والأدب، وكنتُ من حين إلى آخر أُلقي نظرة على محتواها، رغم أنّني لم أكن أستوعب الكثير مما فيها، فيصيبني من تلك الحال ملل فأُلقي الكتاب جانبا، لأرجع إليه في وقت آخر.. وفي مرات كثيرات أعيده من حيث جاء، مُعاقبا إيَّاهُ بالهجر المؤبد!
ومن ضمن الكتب ذوات الحجم الجيبي، كانت هناك نسخة عتيقة من كتاب "البخلاء" لأبي عثمان عمرو بن بحر المعروف باسم الجاحظ (150-255هـ)، وما دفعني للتجرُّؤ على قراءته؛ ما سمعته عن هذا الأديب الأريب، فأخذتُ الكتاب وقلَّبت صفحاته الأولى، حيث وجدتني أعصر مُخِّي لأفهم عباراتهِ المُشكِلة التي بدتْ لي كطلاسم لا يربط بينها فكرة معيَّنة، وبعد محاولات يائسة لفك تلك الطلاسم، قررت أن أصنع ما صنعت مع غيره من الكتب فهجرته هجرا جميلا.

مرتْ قُرابَة عشر سنوات على ذلك الهجر، وتغيّرَ أمري من حال إلى حال بعد أن مشيتُ خطوات متعثرات في مضمار الأدب، أو هكذا بدا لي، فمن خلال مطالعاتي لجهابذة الأدب في القرن العشرين، وجدتُ طودين شامخين يُعَدُّون في القلائل الذين كانوا يكتبون بلسان عربي مبين، بل هما قلمان عُدِمَتهما الأمة منذ عصر عبد القادر البغدادي صاحب خزانة الأدب، وهما: حجَّة الأدب مصطفى صادق الرافعي، وشيخ العربية محمود محمد شاكر رحمهما الله وطيَّب ثراهما؛ وجدتهما يثنيان على أدب الجاحظ ثناءً عجيبا.

كنت أصنع ذلك من مكاني حيث تردُ عليَّ نوادر الجاحظ ومُلحُهُ، لتستخرج الضحكة من قبضة التقطيب، والقهقهة من ثغر العَبُوس، دون أن أعدم القالب المشوِّق
كنت أصنع ذلك من مكاني حيث تردُ عليَّ نوادر الجاحظ ومُلحُهُ، لتستخرج الضحكة من قبضة التقطيب، والقهقهة من ثغر العَبُوس، دون أن أعدم القالب المشوِّق

جاء في كتاب أبي ريَّة "رسائل الرافعي"، نقله لثناء الرافعي على كُتُبِ الجاحظ وتزكيته لها، وذلك في قوله: "وما أرى أحدا يُفلِحُ في الكتابة والتأليف إلا إذا حَكَمَ على نفسه حُكما نافذا بالأشغال الشاقة الأدبية كما تحكم المحاكم بالأشغال الشاقة البدنية، فاحكمْ على نفسك بهذه الأشغال سنتين أو ثلاثا في سجن الجاحظ أو ابن المقفع أو غيرهما، وهبْها كانت في أبي زعبل أو طره..". وقوله -رحمه الله- في موضع آخر: ".. ثمّ قطِّع النفس في قراءة آثار ابن المقفع (ككليلة ودمنة واليتيمة والأدب الصغير)، ثمَّ رسائل الجاحظ وكتاب البخلاء، ثمَّ نهج البلاغة..". أمّا بالنسبة لمحمود شاكر -رحمه الله- فقد جاء على لسان ابنه "فِهْر" في لقاء صحفي، أنَّ أباهُ يقدِّمُ أبا عثمان الجاحظ على كل من كتب بلغة العرب في تاريخ التأليف العربي.. وكفى بها شهادة من أديب موسوعي مثل أبي فهر.

فحرَّك هذا الكلام في صدري شعورا بالتقصير تجاه هذا الكاتب الفذ وكتابه، فقررتُ الرجوعَ إلى "البُخلاء" بإعادة قراءته على ضوء هذه الصورة المشرقة التي رسمها في ذهني أدباء عصرنا عن كاتب بليغ يُعدُّ زمرة الذين تفرَّدوا بالسُؤدد في ساحِ الكتابة والتدوين، ووُسِمُوا ببلاغة الحديث وجودة العبارة.. لقد وجدتُ -يومئذٍ- الكتابَ على غير الهيئة التي ألفَيْتُهُ عليها قبل عقْدٍ من الزمن؛ كأنِّي هذه المرة أسير كالمشدوه في أزقة بغداد، متفحصا أسواق الكوفة، مصليا في مساجد البصرة، سائحا في أطراف نيسابور ومرو.. كنت أصنع ذلك من مكاني حيث تردُ عليَّ نوادر الجاحظ ومُلحُهُ، لتستخرج الضحكة من قبضة التقطيب، والقهقهة من ثغر العَبُوس، دون أن أعدم القالب المشوِّق، في تراكيب لا يُحسن نحتها سوى عمرو بن بحر في وصف بديع وسرد ماتع.

لم أخرج من ذلك المؤلَّف بقهقهات صاخبة وضحكات عالية فحسب؛ بل خرجت أجرُّ ورائي كيسا من المعارف أثرت قاموسي بلغة فصيحة راقية؛ أضف إلى هذا وذاك، أسلوبا ساحرا ساخرا فريدا يُحسن النسجَ على منوال، لا يبدُرُ إلا ممن هو في قامة "الجاحظ" العلمية والأدبية والفكرية! لأن "كتُب الجاحظ تعلِّمُ العقل أولا، والأدب ثانيا" كما جاء عن ابن العميد!

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.