شعار قسم مدونات

أصدقاء "حمقى" للبيئة!

blogs مزبلة

إياك ومصادقة الأحمق فإنه يريد أن ينفعك فيضرّك، وإياك واستعمال الأشياء من حولك بحماقة فإنها تتحوّل إلى عكس الوظيفة التي تستعمل من أجلها.. وذلك ما يحدث عندما نستعمل الأشياء بمعزل عن الأفكار التي يفترض أن تكون مرتبطة بها، فتؤدّي عكس الوظيفة التي يفترض أن تؤدّيها، فتكون بمثابة الأحمق الذي يضرّك من حيث يريد أن ينفعك.. إنها بالفعل أشياء حمقاء لأنها أُبعدت عن الأفكار والغايات والمعاني التي كان يجب أن تبقى مرتبطة بها حتى تؤدّي وظيفتها المرغوبة.

حاويات النظافة مثال على ذلك، إنها أشياء مرتبطة بفكرة النظافة، النظافة والمحافظة على البيئة والمحيط هي سبب وجودها، لكن عندما ينفصل استعمالها عن الفكرة فإنها تؤدي أثرا عكسيا لما هو منتظر منها فتصبح وسيلة للمزيد من التلوث بدلا من أن تكون وسيلة للنظافة، والحالة التي غالبا ما تكون عليها هذه الحاويات في كثير من مدننا دليل محسوس و "مشموم" على ما نقول.

نشاط تحويل النفايات مثلا، يفترض أنه من النشاطات التي تحافظ على البيئة وتساهم في نظافة المحيط، لكنني شاهدت عمال شاحنة لجمع صناديق الكرتون بغرض إعادة تدويرها لتكون جاهزة للاستخدام من جديد، وهذا نشاط صديق للبيئة أو يفترض به أن يكون كذلك، شاهدتهم وهم يحملون الكراتين ويرمون ما بداخلها من بقايا يخلّفها تجار السوق الشعبية المتواجدة في المكان -كما يفعلون كل يوم- على الأرض، فبدلا من أن يساهم نشاط التحويل هذا في النظافة، أصبح يتسبب في المزيد من التلوث لأنه انفصل عن فكرة النظافة.

 

فكرة الإيثار والتضحية هي التي ترفع الدرهم فوق المائة ألف، وفكرة الإحسان إلى الناس ابتغاء لوجه الله سبحانه ودونما انتظار للجزاء والشكور منهم بأي شكل من الأشكال، هي ما يجعل دراهمك ودنانيرك
فكرة الإيثار والتضحية هي التي ترفع الدرهم فوق المائة ألف، وفكرة الإحسان إلى الناس ابتغاء لوجه الله سبحانه ودونما انتظار للجزاء والشكور منهم بأي شكل من الأشكال، هي ما يجعل دراهمك ودنانيرك "صدقة"
 

لقد أصبح هذا النشاط "الصديق للبيئة" صديقا أحمق للبيئة!، فهو يؤذيها من حيث يفترض أن ينفعها ويصلح حالها، وصاحب هذا النشاط الذي تلقى دعما وتشجيعا من السلطات لممارسة نشاطه، لم يخبر عماله بأن عملهم هو خدمة البيئة والمحافظة عليها إلى جانب جني المال من جمع الكراتين، لأن فكرة النظافة انفصلت في ذهنه عن شاحنة تحويل الكرتون فأصبحت هذه الوسيلة شيئا أحمق يضرّ البيئة من حيث تريد السلطات العامة أن ينفعها.

في القرآن الكريم، نجد بوضوح كيف يتحول الشيء إلى عكس وظيفته عندما ينفصل عن الفكرة في قوله تعالى: "قَوْلٌ مَّعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِّن صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى ۗ وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ" (البقرة – 263 )، عدم التصدّق بشيء والاكتفاء بقول معروف يسرّ القلب أفضل من صدقة يتبعها المنّ والأذى، القول المعروف أفضل من التصدّق بشيء تراه ذا قيمة لكنك تفصله عن فكرة الصدقة التي تدخل السرور على قلب المؤمن بدلا من أن تُهين كرامته.

 

الصدقة أصلا ليست شيئا، فجانب الفكرة فيها يتغلب على جانب الشيء، ولذلك يسبق درهم مائة ألف درهم عندما يتصدّق به رجل لا يملك إلا درهمين، فيكون أسبق من مائة ألف درهم يتصدّق بها رجل ثري من عرض ماله، ففكرة الإيثار والتضحية هنا هي التي ترفع الدرهم فوق المائة ألف، وفكرة الإحسان إلى الناس ابتغاء لوجه الله سبحانه ودونما انتظار للجزاء والشكور منهم بأي شكل من الأشكال، هي ما يجعل دراهمك ودنانيرك "صدقة"، لأن ارتباطها بالفكرة ارتباط وثيق، وعندما ينفكّ هذا الارتباط في استعمالنا للأشياء ستتحوّل إلى عكس ما وُجدت لأجله، وستكون النقود التي نعطيها للفقير ثم نمنّ بها عليه، سببا لإهانته بدلا من أن تكون وسيلة لإكرامه والإحسان إليه لوجه الله، وقد كانت أمّنا عائشة رضي الله عنها، فيما يروى، تعطر صدقتها بالمسك لأنها ستكون في يد الله سبحانه وتعالى، فيا له من ارتباط بين الشيء والفكرة!

صدقة أم المؤمنين معطّرة بالمسك لأنها مرتبطة بفكرة أنها ستكون في يد الله سبحانه وتعالى، وحاويات النظافة في مدننا وشوارعنا في حالة بائسة لأنها منفصلة في ذهنياتنا عن فكرتها التي يجب أن تكون مرتبطة بها، إنها منفصلة عن فكرة كونِها وسيلة للنظافة، وأن وسائل النظافة مقدّسة في ديننا، فقد كان الرسول عليه الصلاة والسلام يحبّ السواك ويعتني به لأنه "مطهرة للفمّ ، مرضاة للربّ"، أي أنه يرضي المولى سبحانه وتعالى لأنه وسيلة للنظافة، وبالتالي فإن كلّ وسائل النظافة هي "مرضاة للربّ"، لأن نظافة الشوارع والأماكن العامة ليست أقل أهمية من نظافة الفمّ، والدّين الذي يأمر أتباعه بتنظيف أسنانهم لا ريب في أنّه يقتضي منهم أن تكون شوارعهم وطرقاتهم "زيّ الفلّ".

وحتى تكون شوارعنا وطرقاتنا كذلك، علينا أولا أن نستعمل وسائل النظافة بذكاء، وفطنة، ووعيي بالفكرة التي ترتبط بها هذه الوسائل لتكون وسائل ذكية تحقّق الغاية المرغوبة من وجودها كصديق حقيقي للبيئة، لا مجرّد حاويات وشاحنات "حمقاء" تضرّنا من حيث نريد أن تنفعنا.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.