شعار قسم مدونات

عاكف.. لا أبرح حتى أبلغ

blogs مهدي عاكف

ليس برسول ولم يدّعي يوماً النبوة، حتى من تأثروا به لم يخرجوه عن إطار البشر، لم يزعم يوماً ألوهية رأيه أو عصمة اجتهاده عن الخطأ، قالوا عنه شيخ المجاهدين وأَسمَوه سجين كل العصور، لكنه كان أكبر من أن تدرك خصاله الألقاب أو تشغله كثرة المسميات، مَضي في طريقه الواضحة المعالم زاهداً فيما عِند الناس، أعلن عن فكرته الغريبة عن مجتمعه بكل شجاعة فلم يكن هناك ما يخجل منه أو يتدسس به إلى الناس تدسُساً.

أخرج شباب جماعته من ضيق القَمع الفِكري والنقد اللاّذِع إلى سِعَة النِقاش وتبادل الأفكار، كي يمتلك الشباب القناعة والرضا التام لأن يقول "نعم" والشجاعة والصلاحية الكاملة لأن تقول "لا" ولو على سبيل العناد والتمرد. تخلي عن نصيبه في حفلة الضجيج وزخم الصورة العامة وتَرَجل عن المنصب ليَحمِل بذلك لقب "المرشد السابق" إيماناً منه بأن الفِكرة كالجسد مالم يتجدد الدم في عروقه أُصيب بالتجلط وتوقف عن العمل. عبقرية في البناء، إخلاص في العمل، أصالة في الفهم، حِكمة في التصرف، جرأة في الحق، زهد فيما عند الناس.

إن وطن أسلم لك فيه أن تكون جَباناً وَضيعاً على أن تكون حراً نزيهاً وطن ملعون، فما أسهل العيش لولا الكرامة

تعرفت على الأستاذ محمد مهدي عاكف "مرشد جماعة الإخوان المسلمين السابق" من الحلقات التي كانت تُعقد بانتظام بعد صلاة الجمعة في المسجد الذي نشأت فيه، لكن شخصاً كعاكِف يثير فضولك لمعرفة ما يحيط بشخصيته، لذلك تعرفت عليه عن قرب عبر لقاءاتِه وكُنت مِمّن أكرمهم الله برؤيته والحديث معه مرتين، طالعت سيرته وما قيل عنه بعيداً عن الإطار التنظيمي وطقوسه الروتينية، وكم أنا مدين له بعد الله بفهم شمولية الدين وحتمية العمل لقضية فلسطين، وكم كان له بالغ الأَثَر في تكويني وبنية عقلي ووجداني.

أذكُر يوم كان الافتتاح الرسمي للمركز العام للإخوان في المقطم في 20 مايو 2011 وبعد أن انتهت فقرات الحَفل تم دعوة الحضور إلى جولة داخل المركز لتَفَقُد أقسامِه وما إن دَلفت إلى الردهة الرئيسية ومنها إلى قاعة الاستقبال وإذا بعيني تقع على مكتب الأستاذ محمد مهدي عاكف بالطابق الأول في نهاية الجانب الأيمن لغرفة الاستقبال جلست على الكُرسي المخصص للمكتب وذَرَفت عيني وأنني والله لم أختر البكاء كنهاية لذلك اليوم ولكنه حَدَث ولم أُكمِل يومَها الجولة، حينها تذكرت عاطفة الشاعر العربي جميل بن معمر حين قال:

لقد ذَرَفَت دموعي وطال سُفُوحُها .. وأصبَح من نفسي سقيماً صحيحُها


ذات يوم تناقشت معه "عليه رحمة الله" قائلاً: نحن كشباب لدينا مُقتَرَح لعمل مكتب إرشاد موازي ليس بدافع الوِصاية أو ادعاء الحِكمة ولكن بهدف رفع توصيات للأخوة في الإرشاد والشورى على اعتبار أننا الأكثر احتكاكاً بالجماهير وكما تعلمون أن طلاب الجامعة هم الشريحة الأكبر تأثيراً في المجتمع ويمكننا التعويل عليها. رد عليّ قائلاً: يا مهندس.. كل أخ في أسرته يعتبر مكتب إرشاد، الأهم أن يقوم بفضيلة الإرشاد بحق.

ولا يفوتني أن أعلّق على واقعة "الطُز" التي اشتهر بها أستاذنا الكبير حين عَمِد الإعلام المصري إلي تحريف الجملة وليّ عنق النص لعمل فرقعة إعلامية مفادها أن مرشد الاخوان المسلمين يقول "طُز في مصر" وفضيلته ما قالها نَصاً وما تدَسَس بها تلميحاً. رغم أن السيسي اختصر له الوطن في زنزانة واعدام وموت بلا جنازة ولا مراسم عزاء، إلاّ أن فضيلته لم يختصر الوطن في أغنية وعَلَمٍ كما فعلوا هُم بل كان الوطن في عينه إيمان تام وإرادة صلبة وحلم حريّة وبرّاح لذلك ضحي في سبيله مُحتَسِباً الأجر.

يا أصحاب الميدان لا تُحَرّكوا طواحينكم قبل أن تزرعوا قمحكم فإن ضجيجها الفارغ عورة، ولا تزرعوا بذور قمحكم قبل أن تحرثوا أرضكم فإن غَرسها مَضيعة

صدقوني.. لا أحد في هذا البلد يُحرّك ساكناً ليعطي أهله سبباً واحداً للفخر به والبقاء فيه أو حتى الصبر على ضيق العيش وتحمّل الذل. وطن أسلم لك فيه أن تكون جَباناً وَضيعاً على أن تكون حراً نزيهاً وطن ملعون، فما أسهل العيش لولا الكرامة. وطن يحرّضك لأن تكون الهجرة أولي طموحاتك وطن كسيح مسجون. وانه لــ طُز في كل مَن أراد لهذا الوطن ذُلاً ولم يسعي في رِفعَتِه عِزاً وفَخراً.

محمد مهدي عاكف لم يكن إخوانياً، هذا العملاق الكبير في كل شيء لم يكن ينتمي سوى إلى السماء. رَحَل في صًمتٍ يِفتِكُ بِنا كما رحل أستاذه ومعلمه الأول الإمام البنا ولسان حاله يقول: يا أصحاب الميدان لا تُحَرّكوا طواحينكم قبل أن تزرعوا قمحكم فإن ضجيجها الفارغ عورة، ولا تزرعوا بذور قمحكم قبل أن تحرثوا أرضكم فإن غَرسها مَضيعة. عهدنا مع الله ثم معك أن نظلّ عاكفين مقاومين للظلم لا نبرح حتى نبلغ. وإنا لله وإنا إليه راجعون.

هناك نموذجان حادّان لا ثالث لهما.. إمّا "رجال" كمهدي عاكف أدركوا أن الوطن غالٍ، فضحوا بأنفسهم لأجله مٌحتَسبين. أو "ساقطين مأجورين" كالسيسي أدركوا أن الوطن غالٍ، فباعوه بثمن بخسٍ دراهم معدودة.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.