شعار قسم مدونات

اليسار.. الفائز في الشعارات الخاسر في الانتخابات

blogs - شعار اليسار
لو تتعبنا بدايات نشوء مصطلح اليسار السياسي في العالم، لوجدنا أنه ارتبط بفكرة المعارضة والتغيير للوضع القائم، حيث كانت أول ممارسة فعلية له حين جلس جميع النواب المعارضين لسياسة الملك لويس السادس عشر إلى جهة اليسار في البرلمان الفرنسي، تعبيراً عن رفضهم للسياسات التي تمس فئة العمال والفقراء في المجتمع، ومن هنا ارتبطت فكرة اليسار بأحقية الشعوب في العدالة الاجتماعية والحرية وتقاسم الثروات، وبعد قرن على بدء هذه الأفكار انتقلت من ردة فعل عشوائية على الطبقية والبرجوازية التي كانت تسيطر على معظم دول أوروبا، إلى بروز منظرين فلسفيين لهذا التيار وإرساء أسس وقواعد تحكم الفكر اليساري العام، وكان لكارل ماركس وفردريك إنجلز الفضل الأكبر في ذلك باقتناعهم بأن التطور الحتمي للبشرية يقودها دوما إلى الاشتراكي، خصوصا بعد إصدارهما كتاب البيان الشيوعي في منتصف القرن التاسع عشر.
لم تكن هذه الأفكار والفلسفة الماركسية تتجاوز فئة المثقفين والباحثين السياسين والاجتماعيين في المقاهي والندوات الثقافية، ولكن في بدايات القرن العشرين وتحديدا في سنة 1917، حدث تغير كبير لهذا الفكر بعد فوز الثورة البلشفية بقيادة لينين، وما تلاها من قتل لعائلة القيصر نيقولا الثاني، وأبرز معاونيه وما نتج عن هذه الثورة من تحول الفكر الماركسي من فئة المثقفين إلى فئة العمال والفقراء، وأصبحت فيما بعد النموذج الأوحد لسيطرة اليسار وتحديدا الاشتراكيين على الحكم.

الممارسة القمعية السادية التي مارستها قيادة الثورة البلشفية متمثلة في فلاديمير لينين قادت العديد من مؤسسي الفكر الماركسي إلى شجب هذه الممارسات
الممارسة القمعية السادية التي مارستها قيادة الثورة البلشفية متمثلة في فلاديمير لينين قادت العديد من مؤسسي الفكر الماركسي إلى شجب هذه الممارسات

كل هذه الأحداث وحالة التخبط السياسي والممارسة القمعية السادية التي مارستها قيادة الثورة البلشفية متمثلة في لينين قادت العديد من مؤسسي الفكر الماركسي إلى شجب هذه الممارسات، ولعل أشهرهم كارل كاوتسكي الملقب "بابا الماركسية" الذي كان يرى أن البلاشفة ولينين تحديداً أسس لفكر دكتاتوري سلطوي قمعي أشد شرا من الدكتاتورية القيصرية. مما دعا لينين إلى اعتبار كاوتسكي كمرتد في كتابه الشهير (الثورة البروليتارية والمرتد كاوتسكي).

أما على المستوى العربي، فكان لسيطرة البلاشفة على الحكم؛ الأثر الأكبر في نشوء الأحزاب اليسارية المتمثلة في الشيوعية في بعض البلدان العربية، وكان لفلسطين ومصر ولبنان الطليعة في تكوين هذه الأحزاب في العشرينيات من القرن الماضي نتيجة تأثرهم في الأفكار التحررية ومفهوم العدالة الاجتماعية ومناهضة الإقطاعية والطبقية التي كانت سائدة آنذاك.

ولو حللنا نشوء الأحزاب اليسارية في الوطن العربي وما واجهته من تحديات تلتها؛ نجد أن أخطرها كان الخلافات الفكرية الفلسفية في أوساط اليسارين أنفسهم وفقدهم للهوية والمظلة الموحدة من شيوعية واشتراكية عربية وليبرالية أمريكية واشتراكية أوروبية وشيوعية سوفييتية والتناقض الكبير في أسلوب تأسيس وقيادة هذه الأحزاب التي كانت دائما تبني توجهاتها من خلال الدولية الثالثة (الكومنتيرن) المتمثلة في الحزب الشيوعي الروسي. وما نتج عنه من زيادة في فقد الهوية اليسارية العربية.

في ظل فشل وفساد الشيوعية والاشتراكية في الحكم، أصبح نجم العديد من الحركات والأحزاب اليمينية على مستوى العالم في صعود لترشح نفسها كبديل واقعي ووريث حصري

وفي منتصف القرن العشرين، وبعد سيطرة العسكريين على الحكم في سوريا ومصر والعراق أصبحت الحركات اليسارية الشيوعة الاشتراكية في مواجهة حقيقية مع السلطة امتدت لسنوات، سجن خلالها أغلب قادة الشيوعية والاشتراكية العربية خصوصا في مصر، ثم تلاها تحول كبير حين مزج عبد الناصر بين القومية العربية والأفكار الاشتراكية والشيوعية مثل العدالة الاجتماعية وتوزيع أراضي الإقطاعيين ودعم فئات الفلاحين والعمال، أصبح هناك توجه كبير عند قادة الأحزاب الشيوعية خصوصاُ إلى الانسياق وراء أفكار جمال عبد الناصر والانتقال من معاداته إلى اعتباره رمزاً لهم، مما سهل خروجهم من السجن في بداية الستينيات من القرن الماضي.

ثم كانت مرحلة التمكين والشعبية الكبيرة لليسار عموما وللاشتراكية خصوصا في مصر والعراق وسوريا، وانتقل اليسار من فئة معارضة إلى فئة حاكمة تشارك في حكم أكبر البلدان العربية. وتحولت جميع الأفكار التي لطالما نادى بها اليسار من محاربة الفساد والعدالة الاجتماعية وتوزيع الثروات إلى مجرد أفكار وحوارات مثقفين تتناقض مع ما تمارسه هذه الأحزاب المسيطرة على الحكم من قمعٍ ونهبٍ للثروات وترسيخ الممارسات الرأس مالية واستئثار فئة قليلة من الشعب على مقدرات الدولة.

ولو تحدثنا بشكل خاص عن الأحزاب اليسارية الفلسطينية المتمثلة في الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين والجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين وحزب الشعب وتتبعنا قيادتهم للنضال الفلسطيني، لوجدنا أن اليسار الفلسطيني أصبح على وشك الهزيمة والاختفاء عن الساحة الفلسطينية بعد أن كان له الشعبية العظمى لما كان يمثله من تعددية دينية وفلسفية في قيادته، فعلى سبيل المثال في انتخابات البرلمان الفلسطيني الأخيرة عام 2006، هزم اليسار الفلسطيني في الانتخابات هزيمة ساحقة، فلم تستطع كل أحزاب اليسار التقليدية مجتمعة أن تحصل سوى على 7 مقاعد من أصل 132 مقعداً، أضف إلى ذلك هزيمتهم الساحقة في انتخابات مجالس الطلبة في جامعة بير زيت وجامعة النجاح التي تعكس بشكل كبير توجهات الشباب الفلسطيني وأفكارهم، أضف إلى ذلك هزيمتهم في الانتخابات البرلمانية والرئاسية المصرية وغيرها كثير.

ولعلنا هنا نشيرإلى أن اليسار العربي بشكل عام والفلسطيني بشكل خاص، عانت وما زالت تعاني من تبعات الدكتاتورية والتفرد الخطير في الحكم من قبل الأحزاب اليسارية الشيوعية والاشتراكية العالمية التي استطاعت الوصول إلى السلطة، حيث مارست نفس التسلط والدكتاتورية التي ثاروا ضدها في العديد من دول العالم، في روسيا وكوبا وفنزويلا والصين، وغيرها كثير لتجسد بشكل خاص مقولة اللورد أكتون (السلطة الكلية تؤدي إلى الفساد، والسلطة المطلقة فاسدة كليا)، فما يزال الإنسان العربي خصوصا ينادي بحرية الرأي والعدالة الاجتماعية حتى يهاجمه المخالف له في الرأي، فيصبح المنادي بالحرية أكبر دكتاتور قامع، يبيح دم المخالف ويسفهه، ليكون مطالباً بالحرية المطلقة له، ممارساً للقمع لغيره، غير مدرك أن من يتحالف معه الآن لتصفية الآخر هو نفسه من سيتحالف ضده غدا.

ويبدو كنتيجة لكل ما سبق، وفي ظل فشل وفساد الشيوعية والاشتراكية في الحكم، أصبح نجم العديد من الحركات والأحزاب اليمينية على مستوى العالم في صعود لترشح نفسها كبديل واقعي ووريث حصري للتوجه اليساري العالمي. وأمسى اليسار الفائز في الشعارات الخاسر في الانتخابات حتى إشعارٍ آخر.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.