شعار قسم مدونات

الاستعباد الذكي

blogs - رجل يجلس إلى مكتب
في آخر المدينة عند باب الخروج من الدار البيضاء في اتجاه مراكش، على جانب الطريق السيار تجد مباني بنوافذ صغيرة و كثيفة، تشبه إلى حد ما السجون التي ارتادها مايكل سكوفيلد في سلسلة "prison break"، الاختلاف الوحيد ربما هو أنك لن تجد لافتة أو واجهة استعلام عليها اسم المكان قرب الأبواب الثلاث لهذا المكان المرموق.
اسم المكان "Casanearshore"، والأوفشور هو عبارة عن نقل خدمات مؤسسة أو شركة ما إلى الخارج، بغية الاستفادة من شروط ضريبية مريحة، كما هو الحال في المغرب الذي يعطي الحق لأي شركة أوفشور عدم دفع الضرائب لمدة خمس سنوات الأولى، هذا هو التعريف القانوني والرسمي، ويقابلها إلى حد ما عند الأشقاء المصريين "القرية الذكية".

أما التعريف البيضاوي -نسبة إلى الدار البيضاء- فيختلف حسب الطبقة الاجتماعية، فسائق سيارة الأجرة القديم مثلا يعتقد أن المهندس هنا يتقاضى أجره بالأورو وليس بالدرهم، أما العامل هنا فمن المهندس إلى التقني البسيط سيُعرف لك المكان على أنه وجه الاستعباد الجديد، وسيقول لك إن القدماء استعبدوا عمالهم بمعول وفأس، والأسياد الجدد استعبدوا الموظفين بفأرة ولوحة مفاتيح، سيعرفونه على أنه عاصمة النفاق الاجتماعي واليوم العالمي للضغط والسكر والأمراض المزمنة مجتمعة، وربما تجد من يمتعض من مقارنته بالسجون، إذ السجون في السويد نسبيا أحسن.

السجن في بعض الدول يوفر لك مثلا مكتبة، يوفر لك ملعبا لبعض الرياضات الجماعية، يوفر لك صالة ألعاب، وباحة استراحة، يوفر لك احتفالات ومسابقات دورية، وطبعا الكثير من الزيارات العائلية، تخيل أن أهلك أو أصدقاءك لن يستطيعوا يوما دخول المكان بشكل قانوني إن لم يكونوا عمالا هنا ويحملون بطاقة دخول، وقد حدث معي أن أردت الدخول يوما إلى أوفشور الرباط من أجل لقاء صديق لي وقوبل طلبي برفض قاطع من طرف الأمن.

في عصر الهاتف الذكي، والسيارة الذكية والمدينة الذكية وكل الذكاء الاصطناعي الذي يحيط بنا، لن نُلقي بالا لهذا الاستعباد الذكي الذي يلتهمنا

المكان عبارة عن أبنية مخصصة للشركات، مطعم، صالة رياضة خاصة، فندق، ومحل بقالة، لا أكثر ولا أقل، نظيف ومنظم إلى حد يجعلك تتخيل نفسك في أحد الأحياء الثرية في المدينة أو إحدى أزقة ستوكهولم، وهذا يحسب للعاملين فيه حيث لا يوفر المكان أي سلة مهملات، وبالرغم من ذلك فهو نظيف، يمتنعون عن رمي القمامة ويحملونها معهم إلى داخل الأبنية، ربما لأن مستوى الوعي نسبيا هنا جيد أو لأن المحيط والجو العام في هذا المكان يفرض علينا ذلك.

المباني هنا لا إبداع يتخللها، وهشة إلى درجة سقوط بعض رخامها الخارجي عند هبوب رياح قوية في الشتاء، أكثر من نصف الموظفين لا يجدون مكانا لركن سياراتهم داخل الموقع بالرغم من وجود مساحات شاسعة لا تستخدم في شيء، البقال وأصحاب المطاعم كسائق سيارة الأجرة القديم يخالون كل الموظفين أثرياء فلا قانون ينظمهم ولا تسعيرة توحدهم، والموقع شبه معزول ويصعب عليك إيجاد نقل عام بالقرب من أبوابه الثلاثة.

أغلب الشركات هنا فرنسية أتت بحثا عن كفاءات زهيدة مقارنة بأوروبا، تنقسم هذه الشركات بين مراكز نداء وهو النشاط السائد، حيث يقضي الموظف يومه مع عجائز فرنسيين لا يفرقون بين نوافذ الحاسوب ونوافذ البيت، وبين بضع شركات عالمية معروفة في مجال المعلوميات والأبناك والتأمينات، معظم الأعمال روتينية ولا تستغرب إذا سمعت أن هناك من دأب على تأدية نفس العمل منذ افتتاح الموقع، ولأن النشاط جديد لا يوجد إلى حد الآن قانون منظم لهذا المجال الواسع، ولا حتى تسمية قانونية أو موحدة لمختلف الوظائف، إذ بإمكانك أن تجد اثنين يؤديان نفس العمل الأول له مسمى وظيفي في الأوراق الرسمية مختلف عن الثاني.

مع ذلك يرى الطلاب التقنيون وأصحاب الشواهد العاطلون والكثير من الأفارقة من دول جنوب الصحراء المكان وكأنه السيليكون فالي الأفريقي، ويداعبهم حلم حمل شارته لدرجة حمل الشارة خارج المكان في بعض الأحيان، ثم سرعان ما يتمكن منهم الضغط ورتابة الحياة، لكنهم يتأقلمون وينسون أنفسهم لسنوات، ففي عصر الهاتف الذكي، والسيارة الذكية والمدينة الذكية وكل الذكاء الاصطناعي الذي يحيط بنا، لن نُلقي بالا لهذا الاستعباد الذكي الذي يلتهمنا.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.