شعار قسم مدونات

ورجع بخفي حنين

blogs تأمل

ببدايات الأعوام أو مُنتصفها، يَحْدث أن تسير الحياة على طريقٍ طويلٍ ورتيبٍ، وغير مُجدي، طبيعي بالنسبة للعوام، ولكن يأتي عِند نُقطةٍ مُعينة فلا تعود بعدها إلى سابق عهدك أبدًا، بينما تَعبُر تلك النقطة فإنك تتغير تدريجيًّا، حتى لا يتبقى مِن كَونك القديم شيئًا، وإما أن تكون النقطة نافعة فتأخُذ بِيَدِك إلى الرُشدِ، أو تكون غير ذلك فتُرجِعُك عشر سنين للخلف، نقطة صغيرة هي بالكاد مِحنة عظيمة، ولكنها في حقيقتها إذا تجردت مِن لِبَاس الحُزن والهم تكون هي المنحة الأعظم، لا تخال أنك لن تُهزم أو تسقُط على طولِ الطريق، بلى فالحياة هي الأوْلىٰ بذلك، وإنّما يَحْدُث ذاك لاستقامتِك مرة أخرى، تمُر الأعوام، وبِكل عام حال جديد، إما نحن على الطريق المستقيم، وإما تائهون لا نُدرك السبيل، وهكذا حالنا مع الأيام بين ذهابٍ وإيابٍ، لعلنا نستقر بعامٍ مِن الأعوام على الطريق القويم وَيمتدُ بِنْا إلى آخِرِ العُمر، ونُدرِك المُبتغى.

وسُنة الله في الأيام أنها لا تستقيم لذويها، حالها إما مضطربة أو ساكنة، فبَيْن البَيْنِ هي، نُصاب بالكسرةِ والأسى أحيانًا، ولعل كسرة بالطرف تَجُر مَهلكةٍ بعيدًا عنا خَيْر من فَتحةٍ تَنصبها على طولِ الدهر، ففي الشِدة نرى حقيقتنا وما يجب أن تؤول إليه الأمور، فمصائبُ الدهرِ لا تَنفك تتشبث بِنَا مِن حينٍ لآخر، حتى تنتشلنا مِن التَيه الذي يُوقعنا به زخم الحياة، كي نعود إلينا مُجددًا ونُعيد ترتيب حقائبنا المُبعثرة، وترى أعيُننا ما وراء النهر الذي كان يحجبه سُكونه، فلما أفاض علينا تراءى لنا ما خبأه طيل الدهر، وَصرنا نهرع مِن فيضانه خيفة مِن أن يهدم تِلْك البناءات التي استنذفتنا وقتًا وجُهدًا طويلًا لتشييدها، ولكن في الحقيقة أن كل مُبتغاه كان يكمُن في إعادةِ ترتيبها، ومحو كُل ما هو غير جديرٍ بالاحتفاظ به، وهدم الأوهام التي أُسست عليها، صحيح أننا سنُعيد بناء كل هذا مرة أُخرى ولكن الفرق أنه سيكون بوعي حقيقي.

لا يسعنا سوى أن ننظُر للشاكِ ذي الهم بأعيُننا البَعيدة عنه فَلِكُلٍ مِنَّا هَمٌ يَكفيه، وهَمُه بعينِه أعظم ما رَآه وإن كان بالنسبةِ لنا شيء عادي

ما أسوأ أن تُهدم قناعاتِنا القديمة التي لطالما ظننا أنّها الحقُ المُطلق، وَلَكِن مع التقدُّم في العُمرِ نُدرِك أن كُل شيء نسبي إلا الحق، الحَقُ ثابت وحقيقي لا يتغير بتغير البشر أو الزمن، عندئذٍ نُوقِن أننا لم نأتِ لتلك الحياة عَبَثًا أو لِأجلِ مَنصب كان أو نجاح، وإنّما نتجرد مِن كُل هذا لنُدرك أننا جئنا إلى هُنَا لِأجلِ ذاك الحق، حتى وإن مِتنا قبل أن نصل فالمسعى هو الأهم وليس المبلغ. 

أمَّا المصائب التي ذكرناها سالِفًا، فإنها حين تصيب الواحد مِنَّا، تفعل به فعلتها فينكفئ يطلب العون في البدء، ولكنه بمرور الوقت ينظر إليها بصمتٍ ليرى ما كانت تحمله إليه من خير، ففي ذلك الوقت لا يسعنا سوى ألا ننظُر للشاكِ ذي الهم بأعيُننا البَعيدة عنه فَلِكُلٍ مِنَّا هَمٌ يَكفيه، وهَمُه بعينِه أعظم ما رَآه وإن كان بالنسبةِ لنا شيء عادي (كُلٌ عاكِفٌ على حُزنه، يظن حزنه هو الأكبر، لكنني حتى الآن لم أرَ الْحُزْن الأكبر بعد!) وَلَكِن يتجلى هُنَا مدى تَحمُلنا للآلام القائمة على طولِ الطريق، وَصبرُنا على ما تَهُب به الرياح علينا وإن لم نشتهيه، سواء جزعنا أم صبرنا ما لنا من محيص، فيكاد الجزعُ يجزعُ مِن عِظَم الصبرِ، فَتهون الدُّنْيَا بمصائبها وأفراحِها وأحزانِها وننظر إليها بعينِ الراحِلِ فَلِكُلٍ مُستقر ومستودع لكنه هُناك في عِليين.

نستوقف أنفسنا أمام أشياء لا نُريدها ولا تعني لنا شيئًا، كل ما يحملنا على الوقوف هو الانبهار أو تخيل أن تلك الأشياء من ضرورات الحياة، فقط نَمُر بها ونقف ونُضيع علينا وقتًا وفُرصًا كان من المُمكن أن تُغير الكثير، كمثلِ الأعرابي الذي استوقفه دُكان أحذية حُنين، يسأل ويستفسر عنها، وترك دابته، وبالنهاية رجع إلى أهله بخفي حنين فقط وضاعت عليه الدابة، وما كان يحمله على الوقوف سوى تخيلات واهمة. 

بمرورِ الأعوام نُدرك كم كُنَّا صِغَارًا لا نملك من الأمر شيئًا، ودائمًا ما كُنَّا نرجع آخر النهار بخفي حُنين إلى البيت، فرحين به نُريه للجميع، ولكن الآن نتجرد من كل هذا ونرجع فارغي الأيدي كل يوم، نعود بدابتنا فقط التي بذلنا كل هذا لأجلها. 

فإذا أردت أن تعرف هل توقف عُمرك عند سن مُعين، أم أنك تنضج بمرور الأيام، فانظر إلى حالك هل رجعت اليوم بخفي حنين إلى البيت أم لا؟!

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.