شعار قسم مدونات

محمد يونس.. وقليل هم من ذكروا

blogs محمد يونس

ثمّة شعورٍ يراودنا بين الحين والآخر، بين الفينة والأخرى، وتفكيرٍ يطاردنا إذا ما خلوّنا بأنفسنا. ذاك الزائر الذي لطالما زارنا أقام فينا واقتطع جزءًا لا بأس به من وقتنا، ولم يكُ يومًا خفيف الظل. ذاك التفكير فيما سنقدمه نحن لغيرنا، وفيما سيخلّد ذكرانا بعد رحيلنا، في ذاك الذي سيبقينا نحن على قيد الحياة وإن تغمّدنا اليقين، فيما سيجعلنا باقيين في الناس وإن وارانا الثرى. تُرى كم من أناسٍ رحلوا وهم في الناس ما رحلوا، قبروا وما قبروا، أمواتٌ وهم في الناس أحياء؟!

وها أنا ذا أكتبُ عن واحدٍ مِمَن قدموا فأحسنوا، عن رجلٍ مِمَن أفنوا حياتهم في سبيل غيرهم غير ناظرين منهم جزائًا ولا شكورًا، عن رجلٍ بأمّة، عن رجلٍ مِمَن سطّر التاريخ اسمه بحروفٍ من الإحسان والإيثار ونكران الذات محتلًا بذلك صفحة من جنبات التاريخ مدرجًا تحت باب "رجالٌ غيروا مجرى أوطانهم". رجلٌ بموقفٍ عابر يمر بنا ونمر به جميعًا كل يوم استطاع به أن يقلب موازين أُمته رأسًا على عقب.

يجب على الإنسان أن يكون لديه صدق عزيمةٍ وتمام توكلٍ على اللّه غير آبهٍ لما قد يلقاه من اعوجاجٍ ليجد بُغيته، وما كان لمن علم اللّه في قلوبهم صدقًا أن يخذلهم "إِن يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْرًا يُؤْتِكُمْ خَيْرًا"

والآن أُطلعكم عن بعضٍ من سيرته ولعلكم تشوقتكم إليه، الآن أكتبُ عن "محمد يونس"، رجلٌ كبقية الرجال، بنغلاديشيٌ الموطن، ويمتهن الاقتصاد كمجالٍ للعمل. وكان يعمل سابقًا كأستاذٍ للاقتصاد لدى جامعة شيتاجونج وهي واحدة من الجامعات الكبرى في بنغلاديش. وكان يونس يرى في نفسه أنه لا يليق به أن يكون رجلًا لا طائل له، أو بالأحرى لا جدوى منه، وكان يؤمن بأن الإنسان لا بد وأن تكون له رسالة في الحياة، وكثيرًا ما كان يتألم من الفقر والمجاعات والوضع الاقتصادي الحالك الذي كانت تشهده بنغلاديش آنذاك.

وذات يوم وأثناء خروجه من الحرم الجامعي، إذا بسيدة عجوز تظهر عليها علامات الفقر كحال البلدة ولا تكاد تقوى على العمل وكانت تعمل وقت إذ على تصنيع كراسي من الخيزران لتؤمّن بذلك قوت يومها، فاستوقفته شدّة حالها، وكيف لها أن تحيا في ظل هذا الوضع، ولم يلبث إلا وأن همّ إليها سائلًا إياها عن حالها، فأخبرته بأنها تعمل على تصنيع تلكم الكراسي بهامشٍ ربحي يومي زهيد جدًا من المال "٢٠ سنتًا تقريبًا"، إضافةً إلى ما تلقاه من مشقة العمل وكبرِ السن ووضع البلاد، والسبب أن بعض التجار كانوا يعملون على إقراضها فارضين عليها فوائد مرتفعة. ومن ثَمَ كانت لا تلبث أن تُعيدها إليهم حتى تكاد تحصل على هذا الهامش الربحي "٢٠ سنتًا" وهو مبلغ ضئيل جدًا من المال.

ومن هنا؛ شعُرَ أنه لربما يستطيع مساعدتها وتقديم يد العون لها ولمن على شاكلتها. فقام مستعينًا بأحد طلابه بإجراء استطلاعٍ سريعٍ بالتجول بالقرى الفقيرة، فرصد أربعين شخصًا ممن هم بالفعل على شاكلتها، ثم مضى على مضضٍ يحاول إقناع البنوك لوضع نظام لإقراض هؤلاء الفقراء بدون ضمانات، وهو ما دعاهم للسخرية منه وإلى ما يدعو إليه زاعمين أن الفقراء ليسوا أهلًا للإقراض. لكنه وكعادته يرى الفرصة في كل مشكلة؛ ومن ثمّ أبى إلّا أن يقدم لهم حلًا. فقام بدايةً بإقراضهم من أمواله الخاصة وفق معايير بسيطة وأنهم بإمكانهم إعادتها فقط عندما يتمكنون من ذلك وبإمكانهم أيضًا بيع منتجاتهم في أي مكان دون تحديد شروط للسعر أو فرض أية رسوم عليهم. وما أثار اندهاشه أن كل من أقرضهم قاموا بإعادة المبالغ التي اقترضوها مما أدى إلى توسع وانتشار مشروعاتهم الصغيرة بعض الشيء.

ولطالما نجحت التجربة؛ قام ثانيةً بإنشاء بنك كامل لإقراض الفقراء وأسماه بنك غرامين أو بنك الفقراء. وهذا البنك يعمل الآن في عشرات الآلاف من القرى داخل بنغلاديش وخارجها ولديه آلاف الفروع التي يعمل بها آلاف الموظفين. ولسنوات مضت من الآن قام هذا البنك بإقراض أعداد طائلة من الدولارات على شكل قروض متناهية الصغر والتي لا تتجاوز ٢٠٠ دولار، وخصص البنك بعد ذلك قروضًا وبرامجًا موجهة للمتسولين مما يجعلهم يبدأون مشروعاتهم الصغيرة ويبتعدون كل البعد عن حياة التسول.

يجب أن نلين من قلوبنا التي باتت متحجرة، نلين من ذواتنا حين نمر بديار الفقر والفقراء فنمنحهم قليلًا من الشفقة والعطف، نشعر بهم لأنهم أحوج لمن يتفقد أحوالهم وسُبل عيشهم وأحوج ما يكون لأن نقف بجوارهم

وفي العام ٢٠٠٦، حصل يونس على جائزة نوبل للسلام مناصفة بينه وبين بنك غرامين تكريمًا له ولمشروعه الذي انتشل به الملايين من طريق التسول والفقر وحوّلهم شيئًا فشيئًا إلى روّاد أعمال. وأزيدكم من الشعر بيتًا، أنه عندما حصل على الجائزة هذه، اقتطع جزءًا من نصيبه لإنشاء شركة لتقديم بعض المواد الغذائية ذات تكلفة مخفّضة للفقراء، في حين أن بقية الجائزة ستذهب لإقامة مشفى عيون للفقراء أيضًا. 

وفي نهاية مطافنا؛ أعترف بأنني لم أعد أجد من الكلمات ما أصف بها هذا الرجل، وبِتُّ فارغًا من الاستعارات والتشبيهات والكنايات قُبيل ما قدم. ولتعلم يا من تقرأ ذي الكلمات أن هذا الرجل ليس معجزةً ولا خارقًا للعادة وإن بدا لكَ من فرط صنيعه وإحسانه معجزة. الأمرُ كلَ الأمرِ لا يعدو كونه صدق عزيمةٍ وتمام توكلٍ على اللّه غير آبهٍ لما قد يلقاه من اعوجاجٍ فوجد بُغيته، وما كان لمن علم اللّه في قلوبهم صدقًا أن يخذلهم "إِن يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْرًا يُؤْتِكُمْ خَيْرًا".

وغاية مُرادي، أنني لم أكتب تلكم الكلمات إلّا لعلّها تلين من قلوبنا التي باتت متحجرة شيئًا "أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا"، علّها تلين من ذواتنا حين نمر نحن بديار الفقر والفقراء فنمنحهم قليلًا من الشفقة والعطف ثم لا نلبث أن نعود إلى سالف عهدنا، علّها تُشعرنا بهم وأنهم أحوج لمن يتفقد أحوالهم وسُبل عيشهم وأحوج ما يكون لأن نقف بجوارهم علّنا نهوّن من مصاعبهم شيئًا، أو لعلّ الكلمات هذه على بساطتها تُخرج من بيننا يُونسًا جديدًا.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.