شعار قسم مدونات

رحل عاكف.. فاعكفوا على حركتكم

blogs عاكف
ولد محمد مهدي عاكف المرشد السابق لحركة الإخوان المسلمين في العام نفسه الذي تأسست فيه الحركة من العام ١٩٢٨م، عاش عاكف مولد الجماعة وطلعها الأول، التحق بصفوف الجماعة وهو لا زال صغير السّن، خاض غمار مسيرةٍ عظيمةٍ من النضال ومقارعة الاستبداد والظلم، ناهض حُكم البيادات العسكرية في تاريخ مصر، ناضل ضد الاستعمار وشارك في حرب القناة، سجين كل العصور سجنه جميع الرؤساء الذين مروا على حكم مصر بعد الملكية!
             
عاش جُلّ عمرهِ في سراديب السّجون العسكرية بين السّجن الحربي وطرة والعقرب، دوّن معاناته الدكتور أحمد رائف في كتابه البوابة السوداء، قارع عاكف بصموده الشائخ جهابذة التسلطِ والإرهاب الإنساني، مروراً بعبد الناصر والسادات ومبارك والسيسي، اعتلى بكفاءته الضخمة المناصب الإدارية باقتدار، اختير في المرتبة الــ12 ضمن 50 شخصية مسلمة مؤثرة في عام 2009 في كتاب أصدره المركز الملكي للدراسات الاستراتيجية الإسلامية في الأردن، قدم نفسه لمصر منذ نعومة أظفاره حتى غطى الشيب رأسه ولحيته، وها هو اليوم يُقدم أخر ما تبقى منه في غياهب سجون التعسّف والإرهاب العسكري، قدم لمصر "نفسه المناضلة التّي بين جنبيه".
                
يا ترى كيف تكافئ مصر أبناءها؟

مُنع العلاج عن الرجل المُسنّ مراراً وتكراراً رغم التقارير الأخيرة التي أدلى بها محاميه أمام هيئة المحكمة لتقابل بالرفض عن إطلاق سراحه، كثيراً ما كان يقف مهزوز الحركة في قفص المحاكمة الهزلية، لم يشفع له مرضه بالخروج من السجن على رغم من توقفه عن العمل السياسي قبل أن يأتي الانقلاب بجحافله إلى سُدة الحكم بمصر، وفي نهاية المطاف مات الرجل مؤخراً في السجن، منع العسكر أهله من الصلاة عليه ودفنه أمام الناس، حتى ولو من باب إعطاء الرجل حقه من قبل الجماعة التي عاش في كنفها، بل أرغمت أهله السكوت والبكاء بصمت، شَيّع جثمان الرجل أربعة من الناس، وذهب الرجل كما لو أنه لم يقدم لمصر شيء، هذه هي مصر السيسي مصر العسكر هكذا تفعل بأبنائها.

                

اجعلوا من رحيل عاكف اعتكافاً للتصحيح، لا يقتصر الأمر هنا على الحركة الإسلامية في مصر، بل يجب أن تكون دعوةً تصحيحيةً شاملةً لكل الحركات الإسلامية في أصقاع الأرض، فكروا في حياة المجتمعات قبل موتها.

في المقابل يُعتبر موت محمد مهدي عاكف عن عمرٍ يناهز قرابة الــ 90 عاماً دعوةً للتصحيح والتقييم الشامل لأدبيات ونهج الحركة الإسلامية في مصر، دعوةً للتعاطي مع الواقع بشكلٍ ذكيٍ مرنٍ، فظروف اليوم ليست كتلك الظروف التّي أسّس فيها البناء الحركة ووضع أدبياتها وأفكارها، وشعوب اليوم ليست كشعوب الأمس يُثيرها التعاطف واللعب على وتر العامل الديني والابتلاءات والاصطفاء، بل أصبحت شعوبٌ ذكية واقعية لا تهمها الغيبيات والمستقبل البعيد والموت في سبيل المجهول، بل أصبحت شعوبٌ تُريد أن تعيش بكرامةٍ، تثقُ بمن يخدمها من يوجد لها برامجاً عملية تؤسس لحياة أكثر أمناً واستقراراً.

               

رحل عاكف (فاعكفوا على حركتكم)!

صححوا مساراتها قبل أن تدعو الشعوب والعالم نحو التصحيح، سدّوا الثغرات وافهموا ماذا تريده أنفسكم وقواعدكم أولاً، ثم ما الذي تريده مصر ثانياً، ثم لكم بعدها أن تفكروا عما يريده العالم، أظهروا للعالم سريتكم وضحوا أهدافكم للناس واخرجوها للعلن، دعوكم من أستاذية العالم، استاذوا المجتمع المصري أولاً، حتى لا ينالكم ما حصل في الأعوام الأخيرة، قبل أن تتبنوا الإسلام كسياسة، فلسفوا أفكاره وحلحلوا عُقدهُ افهموا ما يصلح لحياة الناس، ودعوا منه ما لا يصلح لواقع اليوم، علموا أبناءكم السياسة، لا تنشغلوا كثيراً بالعلوم التطبيقية فالعالم قد قطع فيها مشواراً كبيراً، امزجوا بين العلوم التطبيقية والعلوم الإنسانية، أسّسوا لثقافة قبل أن تأسّسوا لعلم، فلا علم دون أُسُس ثقافية تفهم منها الشعوب ما تريد.

               

إن ما يجرّنا لنُصحكم هو إيماننا بعظمة التضحيات التي تقدمونها، ولعلمنا بصدق نواياكم نحو هذه الأمة وأبناءها، ولوقوفكم الدائم في وجهه الاستبداد والظلم، فطوّروا من إمكاناتكم، وواكبوا الحياة بتطورٍ مرنٍ. (اجعلوا من رحيل عاكف اعتكافاً للتصحيح)، لا يقتصر الأمر هنا على الحركة الإسلامية في مصر، بل يجب أن تكون دعوةً تصحيحيةً شاملةً لكل الحركات الإسلامية في أصقاع الأرض، فكروا في حياة المجتمعات قبل موتها.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.