شعار قسم مدونات

المُدرس والمواصلات

مدونات - التعليم

في نهاية السبعينيات من القرن الماضي وفي عام 1978 تخرجت من الجامعة من كلية التربية جامعة أسيوط مملوءاً بالأمل والنشاط. أريد تطبيق نظريات جديدة في التعليم وعندي رغبة قوية في الإصلاح. لكن بداية حياتي العملية صادفتنا – كمدرسين – صعوبات كثيرة.

 

أول هذه الصعوبات أن يتم تعيينك في محافظة نائية غير المحافظة التي تسكن فيها لمدة عامين. أنا وأمثالي لنا ظروف كثيرة تمنعنا من المعيشة خارج المحافظة، ربما هي ظروف أسرية أو اقتصادية أو اجتماعية أو حتى ظروف ثأرية لانتشار عادة الأخذ بالثأر في تلك الآونة.

 

كنت أعيش وقتها في مدينة سوهاج، وجاء تعييني في محافظة أسوان أنا وقريب لي ضمن خريجي الدفعة هذه السنة. رفضت التعيين نظرا لظروف خاصة بي وبأسرتي حيث كنت الابن الوحيد لأبي وأمي المتجاوزين سن الستين. كما أنني كنت أقوم برعاية وإعالة بنات أخي المتوفي. وعن طريق الواسطة بعضو مجلس الشعب عن دائرة سوهاج ذهبت معه إلى مكتب (الاتصال السياسي) بوزارة التربية، وفي الحال تم تعديل النقل إلى محافظة سوهاج بينما ذهب قريبي إلى أسوان في قرى تهجير النوبة مثل (كلابشة) ليعيش عامين بين أناس طيبين، ولكن لهم لغتهم ولهجتهم الخاصة بهم وصعب التعايش معهم بسبب اللغة، كما أنهم يعيشون وسط الثعابين والعقارب ويتعاملون معها بأساليب عادية بعكس الواحد منا الذي لم يتعود على هذه الحياة الصعبة.

 

إن المدرس الذي تتوفر له أساليب الراحة أثناء ذهابه إلى المدرسة بالتأكيد يعطي بكفاءة ونشاط وإخلاص أكبر من المدرس الذي يعاني في المواصلات ويصل إلى المدرسة بعد عناء وإرهاق وتعب وكذلك الطالب
إن المدرس الذي تتوفر له أساليب الراحة أثناء ذهابه إلى المدرسة بالتأكيد يعطي بكفاءة ونشاط وإخلاص أكبر من المدرس الذي يعاني في المواصلات ويصل إلى المدرسة بعد عناء وإرهاق وتعب وكذلك الطالب
 

هذا حالي وحال أمثالي من الشباب فما بالك بحال المدرسات اللاتي ينتظرن الزواج وإقامة حياة بعد طول عناء التعليم ويرغبن في العيش في ظل ظروف مستقرة.

 

في داخل المحافظة، وفي وكالة الوزارة أو المنطقة التعليمية، يوجد موجه أول لكل مادة، وإدارة توجيه، وتوجد بالطبع بيروقراطية. موجه أول يعتقد بأن بيده كل السلطات، يطبق روتيناً عقيماً لا يراعي مصلحة المدرس ولا ظروفه العائلية أو الاقتصادية أو الاجتماعية. هو يقرر وعلى الجميع أن ينفذ التعليمات. والمشكلة أني أسكن في قلب مدينة سوهاج والموجه الأول قرر أن استلم العمل في قرية نائية في أطراف المحافظة الممتدة في كل الاتجاهات، ومعنى استلام العمل في هذا المكان هو حرماني من رؤية عائلتي إلا في الإجازات وذلك لصعوبة المواصلات ورداءتها ولطول المسافة.

 

ونظرا لأنه لا بد من تواجدي في المنزل يوميا لمراعاة أهلي إلا أن ذلك لم يشفع عند الموجه الأول وقرر استلامي العمل في هذا المكان النائي. رفضت استلام العمل وذهبت إلى الوزير وقابلت وكيل أول الوزارة لشؤون مكتب الوزير وكان رجلا فاضلاً، فأعطاني تأشيرة بموافقة الوزير على نقلي إلى مدينة سوهاج. وبرغم هذه التأشيرة الصريحة إلا أن الموجه الأول تحايل عليها وطلب مني أن يتم ندبي ندبا كاملا إلى مكان ليس بالبعيد عن المدينة حتى أستطيع أن أتواصل مع أهلي يوميا برغم عناء السفر، وقال لي أن هذا لنهاية هذا العام فقط وفي العام المقبل سوف ننفذ تأشيرة الوزير.

 

المدرس الذي قضى ما يقرب من ساعة أو ساعتين في المواصلات ويصل المدرسة في حالة تعب شديد وإعياء كيف له أن يعطي وهو لا يستطيع الوقوف من النوم والتعب!

وانقضى العام الدراسي وتحملت في انتظار أن يوفي بوعده ولكن فوجئت بالموجه الأول يطلب مني الرجوع إلى المكان الذي فرضه علي أولا وأنه نفذ طلب الوزير وأنه بانقضاء العام الدراسي فقد أصبحت التأشيرة لاغية. وذهبت إلى الوزير مرة أخرى وحصلت على تأشيرة مماثلة وصريحة بنقلي إلى مدينة سوهاج وبالقرب من سكني وصممت على تنفيذ هذه التأشيرة وإلا تصعيد الأمر إلى النيابة مما اضطر هذا الموجه إلى الرضوخ وتنفيذ الأمر.

 

هذا نموذج لما يصادفه المدرس في بداية تعيينه. كل المدارس في الأماكن النائية بدون استثناء تعاني من عدم وجود مدرس بالقدر المناسب حيث لا يستطيع المدرس أن يصل إلى المدرسة يوميا من مكان سكنه. بين سكن المدرس وبين مكان عمله مسافة تقارب 50 كم وربما أكثر ورحلة معاناة يومية في وسائل مواصلات رديئة (لاحظ أني أتحدث كذلك عن سبعينات القرن العشرين)، وقد يصل المدرس لمكان العمل في هذا اليوم وقد لا يصل عند وجود حوادث على الطريق أو أي معوقات أخرى. فمثلاً قد تكون هناك لجنة مرور في مكان مزدحم عند مدخل مدينة أو مخرجها، وربما يكون سائق السيارة رخصته منتهية أو يوجد ما يستوجب وقوف السيارة لفترات زمنية كبيرة. وفي زمننا الحالي يعلم الجميع أن هذه المشكلة لازالت قائمة بسبب رداءة شبكة الطرق والمواصلات في مصر.

 

المدرس الذي قضى ما يقرب من ساعة أو ساعتين في المواصلات ويصل المدرسة في حالة تعب شديد وإعياء كيف له أن يعطي وهو لا يستطيع الوقوف من النوم والتعب! ورحلة العودة أشد تعبا وإرهاقا وربما اضطر المدرس أن يسير على قدميه مسافات بعيدة.. هذه مشكلة قد تبدو بسيطة في نظر البعض لكن لها تأثير سيء على العملية التعليمية.

 

تتحايل المدارس في علاج هذه المشكلة بأساليب شتى منها مثلاً:

١- عند وضع الجدول المدرسي توضع الحصص الأولي للمقيمين في هذه القرية أو القريبين منها وابتداء من الحصة الثالثة تبدأ جداول من يحضرون من أماكن بعيدة عن هذه المدرسة.. وهذا حل قد يبدو مناسبا ولكنه في الحقيقة يزيد العبء على المدرس الذي يبدأ من الحصة الثالثة حتى نهاية اليوم بدون راحة أو انقطاع وهو في الأصل مرهق.

كما أن الطالب نفسه لا يستطيع الاستيعاب الكافي بعد الحصة الخامسة أو السادسة على الأكثر. هذا غير أنه مطلوب من المدرس أن يقوم بإعطاء مجموعات مدرسية داخل المدرسة، وهنا تكون المجموعات المدرسية مجرد كشوف على الورق وبضع دقائق لا يعطي فيها المدرس معلومة ولا يستفيد منها الطالب، ولكن تستفيد منها إدارة المدرسة والمدرسين من كثرة العدد، إذ أن هذه المجموعات تكاد تكون إجبارية لجميع الطلاب.

يستطيع المدرس أن يعمل في أي مكان ما دمت توفر له الإمكانيات المناسبة والراحة النفسية والبدنية والمالية. ولا تنسى أنه بشر له احتياجات ومتطلبات. فالمدرس في النهاية رب أسرة أو فرد في عائلة

٢- تتحايل إدارة المدرسة في وضع الجدول لإعطاء يوم أو يومين لكل مدرس في الأسبوع وضغط جدوله في باقي أيام الأسبوع وهذا عبأ إضافي على المدرس وعلى الطالب.

٣- أعرف الكثير من المدرسين الذين لا يذهبون إلى المدرسة أصلا ويوقع لهم يوميا في كشوف الحضور والانصراف مقابل التخلي عن جزء من راتبهم الشهري لإدارة المدرسة.

٤- كثير من موجهي المواد لا يقومون بزيارة المدرسة ربما مرة واحدة في كل فصل دراسي ويوقع لهم أيضا في دفاتر الزيارة الخاصة بهم. نتيجة لذلك فإن غالبية المدرسين بدون دفاتر تحضير نظرا لعدم وجود مراقبين لهم.

 

وهناك حلول كثيرة للخروج من هذه المشكلة لكنها صعبة التنفيذ لأمور كثيرة تتصل بالإمكانيات والميزانيات المالية وكثرة المستفيدين من أي برنامج، ولكن أعطي مثالا بسيطا. عندما كنت أعمل في دولة البحرين كان هناك وزارة بالمواصلات خاصة بوزارة التربية والتعليم تحتوي على أساطيل من الباصات المختلفة خاصة بنقل الطلاب من وإلى مدارسهم في مواعيد منتظمة، وباصات مكيفة خاصة بنقل المدرسين من أمام منزلهم إلى أماكن تجمع عند الوزارة، ومن أماكن التجمع يوجد باص خاص لمدرسي كل مدرسة أو مدرستين قريبين من بعضهما، وكذلك الحال عند الخروج من المدرسة.

 

المدرس الذي يذهب مستريحا إلى مدرسته بالتأكيد يعطي بكفاءة ونشاط وإخلاص وكذلك الطالب. يستطيع المدرس أن يعمل في أي مكان ما دمت توفر له الإمكانيات المناسبة والراحة النفسية والبدنية والمالية. ولا تنسى أنه بشر له احتياجات ومتطلبات. فالمدرس في النهاية رب أسرة أو فرد في عائلة.. المدرس في النهاية إنسان.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.