شعار قسم مدونات

يُخلق الوطن من خلخال…

مدونات - باص حافلة ركاب زحمة مواصلات

خرج كعادته في نفس الوقت وركب في الحافلة متوجهاً إلى جامعة موسكو لمناقشة رسالة الدكتوراه، استغرق وقتا لا بأس به لإيجاد موضوع يليق بتفكيره المتميز وبتعبه وبالخبرات التي كدسها في شخصيته طوال سنوات دراسته الجامعية في بلاد لا تشبه بلاده على الإطلاق؛ أربع سنوات في برلين ثم الماجستير في الهند وأخيرا الدكتوراه في موسكو. كان واقفا ويده اليمنى تمسك بإحدى القطع المثلثة المتدلية من سقف الحافلة، سانداً نفسه من الوقوع إثر تعبه لسهر ثلاثة ليال عجاف أمام مكتبه وحاسوبه ومئات الأوراق التي لا تكاد أيا منها تخلو من بقع القهوة وآثار كوبٍ ذو قاعدة دائرية، وفي يده اليسرى بعض من المجلدات وكتفه الأيسر كغصن لحقيبة حاسوبه الشخصي، واقفا كقصب السكر هش من الداخل وحلو المذاق ولكنه قوي وثابت في نفس الوقت.

 
شاردا بعينيه اللوزيتين في عمره وكيف أفناه في التجوال ونهم الحقائق من أمة تبالي بالإنسان، وكيف أنه سيعود بعد أسبوع إلى مستنقع بلاده وقذارة مجتمعه الذي هرب منه! خائفا من التأقلم ومن عدم إيجاد وظيفة تناسبه، الكثير من الأمور المتشابكة التي يفكر فيها ويحاول ألا يشتت ذهنه كي لا يعرقل سير الهدوء في دمه فبعد قليل سيناقش رسالته. قطع صوتُ خلخالٍ ضباب الشرود عن حواسه، وإذ بها شابة صعدت الحافلة بخفة وسرعة ووقفت أمامه غير معيرة أي اهتمام لأي شيء؛ فقد بدت على عجلة من أمرها، تحمل حقيبة كمانٍ وشعرها الأسود الطويل يدندن نوتة خلقها شوبان مع فصول فيفالدي على إحدى مسارح روما يحييها بيتهوفن! لعنة الصدف رتبت لقاء بين عينيها وعينيه على غفلة منهما دام نصف ثانية وسط اكتظاظ الصباح في الحافلات المتوجهة نحو العاصمة، هذه النظرة لم تُثِرْ أي شيء في نفسهما، فصوت الخلخال لا يزال عالقا في تساؤلاته الفلسفية عن الوجود، وهي تبدو منشغلة في موسيقى ما!

 
صاحبة الخلخال تشبه أميرة غجرية من ساحة العجائب صادفها في الأدب الفرنسي، كان يقارن بين الحرية التي يستطيع منحها خلخال في قدم سمراء من أوروبا ولا يقدر نقاب أن يقي اخضرار عين فتاة شقراء في بلادنا! كيف يستطيع مجتمع بأكمله أن يعطي الأمان لامرأة بخلخال؟! كيف استطاع الغرب أن يكونوا أحراراً ودودين بما يكفي متجنبين نعته بـ"الفتنة"؟! والسؤال الأهم أي تحضر وصلوه لا يكون لباس فتاة في العاشرة جل ما يهمهم وأداة لتقييمها طيلة حياتها؟! كم يلزمنا من الوقت كي نصل لما وصلوه وهل المسألة مسألة وقت؟!

 
يحاول أن يزيل أثر الفراشة من هذا الخلخال فتلاحقه فوضى رسالته فتزداد حيرته عصفا! لم يكن ينوي مغازلتها على أي حال، ولكن لمح أن ميدالية حقيبة الكمان فيها رسمة لخارطة الدول العربية بلا حدود، لم يستغرب وجودها فلربما دخلت بلادنا كسائحة كما يفعل أي أوروبي، أدار بصره ناحية النافذة علَّه يعود للتفكير بالمناقشة، فليس هذا هو الوقت المناسب لحل قضايا الحرية والعروبة، ولكنه طالب يدرس التاريخ فماذا عساه يفعل!

 

undefined

 

صوت الخلخال.. ما زالت أذنه تلاحقه كمغناطيس، ليس هو على وجه الخصوص بل فيما يعنيه وجوده أو عدمه من أمور، نظر مرة أخرى إلى الميدالية ولكن هذه المرة كشفت عن وجهها الآخر فوجد "وطن" لا يدري إن كان اسمها هكذا أم معنىً لوجه الميدالية الآخر أم أنها عربية بالفعل أو سائحة كما اعتقد سابقا، ولكن إن كانت أجنبية فلما قد تضع خارطة كهذه وأي وطن تقصد! تزداد قصته بعثرة ويحاول لملمة عاقبته ولكن لا جدوى! قرر الكلام -بالعربية-: وطن؟!
فأجابت -بالروسية-: وأعزف لأجله!

 
تساءل في قرارة نفسه: تتحدث الروسية؟! فسألها: أتنطقين العربية؟! أجابته: لا! ولكن اسمي "وطن"، وأمي من أصول عربية كانت تهوى عزف الموسيقى على الطريقة العربية أتت لدراسة الفنون هنا فوجدت في بلاد الغرب الحرية أنجبتني وصرت وطنها! وغدَتْ بشموخها وطني كذلك ولأجلها أعزف!

 

يبدو أن رحلتي جسدتها "وطن" التي ليست بلادي ولا حتى منها، إنها مجرد ما أريد بكل جوارحي أن يحصل لي أو أراه في ذلك الذي يسمونه وطنا، فالوطن بالنسبة لي ليس إلا خلخال!

كانت تتحدث بجرأة وقوة وسرعة، وحالما انتهت أدارت وجهها قِبَل حَرَمِ عينيه فخَرَّ لها راكعا خاشعا كحنين شامي لأندلس! كان يعلم أنها سردت كل ذلك باختصار كي لا يستمر بأسئلة فضولية تعكر صباحها، خلج إلى نفسه لاعناً أوطانه وأجداد آبائه فردا فردا، عاش في وطنه 18 عاما ولم يجد الوطن إلا من خلال "وطن" وخلخالها وما قالته لتوها، ما الحرية ما الوطن؟! لما هما متضادان في مفاهيمنا العربية والإسلامية؟! ولما يجتمعان في خلخال هنا؟!

 
وجد في عيني "وطن" وطنا! ليست لأنها فتاة بل لأنها الوطن المرجو من كل ثورة تقام في بلاده؛ احتجاجا على أي ظلم أو استبداد أو تخلف!

 

بدأ بتجميع مشاهد مرت عليه لأول مرة منذ وجوده في أوروبا: رقص في الشوارع العامة، قراءة مستمرة من كل الأفراد وفي أغلب الأوقات، موسيقى في كل زاوية، أقلام حرة لم تدخل السجن قط، كاميرات لتصوير الورود ورحيق القبل وسط الساحات، موسيقى لباخ يوم الأحد، عائلات يفكرون بمواهب ابنهم وابنتهم وطموحاتهما وثقافتهما قبل التفكير بزواجهما! لم يَرَ جيشا لمستغانمي أو عشاقا لقباني بل ثورا كجيفارا أو مفكرين كلينين. وكلهم أحرار! هذا ما استوقفه: الحرية فيما يفعلون ويقولون، لا شيخ قبيلة لديهم ليعبدوه.

 

"صوت المنبه.. إنها السادسة صباحا"

 

قام بصعوبة وارتشف ما تبقى من قهوة الأمس ثم أمسك بدفتر ملاحظاته وبدأ يسجل "اليوم هو الأخير تقريبا، وعلى الأرجح أنني لا أعلم ما الخطوة التالية، لن أجد عملا إن عدت لبلادي، ولن أستطيع العيش كما يعيشون ولا التفكير فيما يفكرون ولا عبادة مَن يعبدون، خائف من العودة ولست خاشيا إلا من رؤيتي لذات التخلف الذي ما عهدتهم إلا به، وما زلت أفكر في "وطن" زميلتي الجامعية ومنافستي الشرسة ولكنني اكتشفت أنني لا أرى إلا وجودها ومهتم به كما يهتم الرخام بعروقه، أنوي مصارحتها بذلك ولكن لا أظنها تهتم فهي مقيمة هنا بجنسية صحيح أنها من أصول عربية ولكن… -ترك سطرين وصفحة- سأكمل عنها فيما بعد فأنا أنوي إخبارها غدا بعد حفلتها الموسيقية! فسويعات قليلة تفصلني عن مناقشتي وعليَّ التركيز، آه صحيح يبدو أنني شاهدت حلما غريبا لا أذكر منه إلا "وطن" وما تعنيه، غريب هذا الحلم فرحلتي كلها جسدتها "وطن" التي ليست بلادي ولا حتى منها، إنها مجرد ما أريد بكل جوارحي أن يحصل لي أو أراه في ذلك الذي يسمونه وطنا، فالوطن بالنسبة لي ليس إلا خلخال!

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.