شعار قسم مدونات

شرذمة الحياة

blogs - ناس في الشارع
يرى المتشائم الصعوبة في كل فرصة، أمّا المتفائل فيرى الفرصة في كل صعوبة؛ هكذا على ما يبدو لخص تشرشل الأمل! تشرشل عاش حياةً مليئة بالفرص التي تركت تحت أقدامه محيط دماء يفي ليحرق الفرص لكل بشري عاصره أو تلاه. عليّ ألا أُنكر أن آخر العصور قابلت أهلها بأمل وحيد فقط وهو الحياة!  كان ما يعلو الحياة أمراً صعباً. في الحقيقة لو أن تشرشل خسر الحرب، لما ذُكرت كلماته هذه بهذا الشكل بل بالطبع سيجرم ذاكريها القانون، ألم أخبركم أن الحياة في حينها كانت صعبة. لكن والحمد لرب الابتلاءات وسند المستضعفين ولِدنا في عالم مختلف لا نظنه أفضل أبداً، لكن على الأقل هو يحاول ظن ذلك. 
لست من أهل النُكران صراحةً، نعم أنا ولدت بأيام يعَاقَبُ فيها المخطئ حسب ضوابط محددة تحكم أحوال الناس. في البداية صدقت هذا الكلام، حتى نظرت لأمثلة الاستعمار الحديث وتحديداً الجزء الذي يطرح وجهة نظرِ المُستعمر، صدَّقتُ فيها لوهلة أن غاندي مثلاً كان ساحر قومه! نعم فلم يكن أفضلهم لكنهم تبعوه لا يملك المال ولا الحسب ولا.. أُووه تذكرت. قد مَلَكَ الأمل، لكنه في نظرهم قُوتُ الفراغ والفارغين. على كل حال؛ فَرَّغَ الفارغون بلادهم من مستعمريها، أو أوهِموا ذلك.

يستعمل المستعمر أيضاً أمله في الحقيقة. هو ينظر لبعض الشرذمة والذين سأُسميهم "شرذمة الحياة"؛ كباحثين عن حياة أفضل، فيعطيهم هذه الفرصة العظيمة في الحياة مقابل أن يمنعوها من أجله عن غيرهم من أهلهم.

في بعض الحالات، تُعَبِر شرذمة الحياة عن وصفٍ لأقوام كاملة! ما بين راضٍ عنها ومنتفع، غاص الجميع في وحلٍ ما لمعظمهم به باعٌ ولا ذراع من أجل أسباب يعلم أهل الحق فيها أن مطلبهم هو اللاعودة

تراود نفسي الروايات القديمة، حقيقة هي مضحكة جداً أمام تاريخنا الحديث. كنت أبكي محاكم التفتيش وتخَفِّي المسلمين تحت قناع دين آخر. وما لي بهم الآن إلا كما كان في قصةٍ ضعيفة الصحة قوية التعبير تعود لأمِ طفلٍ مات بعد الثلاثمائة فدخلت على سيدنا نوح تشكو له ضيق أمرها بوفاة طفلها!  فأنبأها بأقوامٍ يعيشون ثمانين سنة فأقسمت أنها لو عاشت حياتهم لقضتها في سجدة. وأقول لهم ولها أنهم لو علموا بيومنا هذا لقضوا حياتهم كلها في جلدةٍ لا في سجدة.

أذكر كُتباً طويلة تسرد قصصاً وحكايا عما فعلته شرذمة الحياة في أهل الفكر والعلم والأدب والدين. يسرد بعضها من عايشها بعد أن مات ألف موتٍ مما تعدون، لكن كتب له ربه أن يسرد لنا تفاصيل استشهاده وإخوته اليومية في آخر حياة له. ويسرد بعضها الآخر أهل الضحايا ممن قد قتلتهم يدُ الغدر؛ أو يدُ الاستعمار.

مرت الأيام مُسرعة، من كان يظن أن الأعوام القليلة هذه كانت كفيلة لتوسع دائرة الملاحقين، لم تعد السجون كافية! أقام الشرذمة الوسائط والهُدن، حتى استطاعوا أن يعودوا لمباغتة عدوهم من أهل الله في أرضه، دارت الدائرة على أعمالهم بضعة أعوام، فكانت كفيلة لتضيق بالناس ذرعاً عن الحل لتتجه بكل قبحٍ لمَفصلِ المُعضلة، بل وترضى به رضا الميت بالكفن.

ما كان من شرذمة الحياة هؤلاء إلا أن يبيدوا أهل الأرض فكلهم قاموا وما قعدوا. وكلهم بسجن الخرائط في أذهانهم ابتعدوا! أيام قليلة فقط أزاحت رذاذ الفحم عن الشبابيك إلا أنها أظهرت من خلفها سواداً أقسم الجميع جمعاً أنها ليست بيدهم، لن يجرؤا حتى على النظر لها، فكيف إن كان الفعل هو المقصود لا النظر؟! هذا جزء من شتلة تبقت، لكن المزرعة الحقيقية قد ساوت الأرض ارتفاعاً!

في بعض الحالات، تُعَبِر شرذمة الحياة عن وصفٍ لأقوام كاملة! ما بين راضٍ عنها ومنتفع، غاص الجميع في وحلٍ ما لمعظمهم به باعٌ ولا ذراع من أجل أسباب يعلم أهل الحق فيها أن مطلبهم هو اللاعودة لما كان في التاريخ المُرِّ، ليذوقوا بعملهم علقم التاريخ كله بما جمع. حتى إنهم ومن البداية تأكدوا أن النهاية أصعب من أن يكونوا من غانِمِيها، ومع ذلك مضوا فيها. أراهن أن سببهم مقنع، فقد رأوا بمنع الشرذمة عن خير الأرض منالاً يستحق. فقبل القليل من الأعوام كان المطلب يدنو الحياة واليوم يطلبونها وغداً؟! وغداً سنحاكم الموت نعم! لا لشيء ولا لِكِبَر لكن وبفطرتنا لن نقبل أن نكون هتلر.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.