شعار قسم مدونات

في حضرة ساق البامبو.. عن رحلتي إلى الفلبين

blogs - البامبو
حين حطت الطائرة في المطار الدولي لمانيلا أحسست أنني ببلد أعرفه كظهر يدي، ببلد زرته عشرات المرات من قبل لكنني لا أتذكر الشيء الكثير عنه. المطار لا يشبه في شيء المطارات التي سبق وأن زرتها، كان شبيها أكثر بمحطة طرقية بئيسة اصطف أمامها عشرات الفلبيين ينتظرون بلهفة ذويهم العائدين بحقائب الخليج المثقلة بالأموال وبأجسام أنهكها العمل في البيوت والصالونات.

العاصمة كانت تشترك مع بقية عواصم العالم في ازدحامها

وتختلف عنهم في كمية التلوث وانعدام البنيات التحتية، الركوب في التكتيك الذي كان بالنسبة للسياح متعة تخرج بهم من رفاهية السيارات والتكاسي الخاصة، كان بالنسبة لأبناء البلد وسيلة نقل رئيسية تختصر عليهم جحيم ازدحام الطرقات وجحيم فراغ الجيوب. للفلبينيين وجوه مبتهجة رغم أن لهيب الحياة والشمس أحرق جلدها وجعل لها لونا صدئا وتجاعيد عميقة عمق قلة حيلتهم، شراحة وجوههم تبعت الطمأنينة في نفوس السياح وتمحو عنهم دهشة الوجهة المجهولة، كنت قد زرت عدة دول آسيوية قبل أن أحط الرحال هنا ولم أحس بمثل تلك الألفة والارتياح التي لا أحسها سوى فوق تربة بلدي وتحت سمائها.

شاءت الصدفة أنني كنت قد أنهيت رواية "ساق البامبو" أسابيع قليلة قبل سفري ذاك ولم أكن أعلم أنني سأزور هذه البلاد وأرى عيسى الطاروف في كل وجه أصادفه، رأيت أبطال الرواية في كل زاوية حطت بها قدماي، رأيت الجد ميندوزا وهو يخوض معارك الديكة التي تحظى بشعبية غريبة في الفلبين، رأيت الأم جوزيفين التي تجر حقيبتها في اتجاه بلاد خليجية لتهرب من كابوس الفقر وترسل قروشا تشبع بها بطون أولادها، رأيت الكثير من الخالة آنا؛ تلك التي بيع جسدها للسياح حتى أضحت بلا ملامح وتجردت من جميع الأحاسيس، رأيت الصغيرة ميرلا التي تجهل نسبها تائهة تشتغل في المطاعم والحانات وتصب عرقها للسياح ليلا كي تعيش.

حين تسافر تدرك مدى صغرك في هذا العالم وأن الحياة توجد في أماكن أخرى، فإما أن تذهب للبحث عن كيف تعاش في باقي بقاع العالم وإما ان تموت كالسمكة لا تعلم عن الكون سوى المياه

كنت أتجول في أماكن أعرفها، بين سيقان البامبو الطويلة ورائحة المانجا والفواكه الاستوائية المنعشة كنت أنام على أصوات الديكة المسجونة ودخان الماريخوانا الذي يتسلق خيوطه شباب الفلبين للهرب من واقع مزر. أحببت الفلبين بكل تفاصيلها بطبيعتها الخلابة وزرقة مياهها الصافية ببساطة شعبها وابتسامتهم التي لم يمحوها الفقر ولا الاستبداد الذي يعيشونه تحت ظل حاكم دكتاتوري مجنون.

حطت طائرتي بمانيلا دقائق قليلة قبل منتصف الليل وكانت رحلتي الثانية في اتجاه أحد الجزر السياحية بعد ست ساعات، اقترح علي سائق سيارة الأجرة أن يقلني إلى ملهى ليلي صغير قرب المطار وأن يعود ما إن تقترب رحلتي الموالية، كنت أظن أن الملاهي هنا تشبه تلك التي تركتها خلفي في سيول عاصمة التقدم والتكنولوجيا لكنني وجدت نفسي في مستنقع من المتحولين الجنسيين وبائعات الهوى، جلست في طاولة بعيدة عن الصخب وأخدت أرتشف عصير المانجا الذي قدمته لي صاحبة المكان بنفسها، دخلت معي في حوار شبيه بمعاكسة من قبل رجل مسن تغزلت تارة بعيناي وتارة أخرى بجمالي الاستوائي الذي لا يوحي من أي بلد قدمت علمت بعدها أنها خبيرة في المتاجرة بالفتيات.

لم أتحمل المكان أكثر من نصف ساعة واتصلت بالسائق ليقلني للمطار، عند وصولي وجدت سياحا من جميع بلدان العالم يفترشون الأرض ويتكئون على حقائبهم الضخمة في انتظار طائراتهم؛ كنت أنظر إليهم بإعجاب حتى نسيت أنني واحدة منهم، أنني قطعت أزيد من 10 آلاف كيلومتر لأرى النصف الآخر من الكرة الأرضية. كانت تلك أول مرة أحس بها بالرضى عن نفسي وأعلم بها أشياء كنت أجهلها عني.

السفر هو الشيء الوحيد الذي يعطيك دروسا عن نفسك، عما أنت وعن ما يمكنك صنعه، عن قدراتك التي لا يمكنك اكتشافها وأنت في كنف سريرك الدافئ في حضن عائلتك وبيتك، السفر هو الوحيد القادر على إخراجك من مساحة الأمان التي تعشش بها.. ستواجه نفسك قبل مواجهة العالم ستتعرف على نفسك أولا ثم على أشخاص سيطبعون حياتك إلى الأبد ستكتشف ثقافتك في حضرة ثقافة جديدة لا تفقه عنها شيئا، حين تسافر تعلم أنك وحيد في مواجهة كل الأشياء الأخرى، لا شيء يشبهك، لغة غريبة، وجوه غريبة، جو مختلف، ديانات مختلفة، عادات وتقاليد لم يخطر لك يوما أنها موجودة في مكان ما من الكرة الأرضية.

حين تسافر تدرك مدى صغرك في هذا العالم وأن الحياة توجد في أماكن أخرى رغما عن أنفك، فإما أن تذهب للبحث عن كيف تعاش في باقي بقاع العالم وإما ان تموت كالسمكة لا تعلم عن الكون سوى المياه التي تسبح بها.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.