العاصمة كانت تشترك مع بقية عواصم العالم في ازدحامها
وتختلف عنهم في كمية التلوث وانعدام البنيات التحتية، الركوب في التكتيك الذي كان بالنسبة للسياح متعة تخرج بهم من رفاهية السيارات والتكاسي الخاصة، كان بالنسبة لأبناء البلد وسيلة نقل رئيسية تختصر عليهم جحيم ازدحام الطرقات وجحيم فراغ الجيوب. للفلبينيين وجوه مبتهجة رغم أن لهيب الحياة والشمس أحرق جلدها وجعل لها لونا صدئا وتجاعيد عميقة عمق قلة حيلتهم، شراحة وجوههم تبعت الطمأنينة في نفوس السياح وتمحو عنهم دهشة الوجهة المجهولة، كنت قد زرت عدة دول آسيوية قبل أن أحط الرحال هنا ولم أحس بمثل تلك الألفة والارتياح التي لا أحسها سوى فوق تربة بلدي وتحت سمائها.حين تسافر تدرك مدى صغرك في هذا العالم وأن الحياة توجد في أماكن أخرى، فإما أن تذهب للبحث عن كيف تعاش في باقي بقاع العالم وإما ان تموت كالسمكة لا تعلم عن الكون سوى المياه |
كنت أتجول في أماكن أعرفها، بين سيقان البامبو الطويلة ورائحة المانجا والفواكه الاستوائية المنعشة كنت أنام على أصوات الديكة المسجونة ودخان الماريخوانا الذي يتسلق خيوطه شباب الفلبين للهرب من واقع مزر. أحببت الفلبين بكل تفاصيلها بطبيعتها الخلابة وزرقة مياهها الصافية ببساطة شعبها وابتسامتهم التي لم يمحوها الفقر ولا الاستبداد الذي يعيشونه تحت ظل حاكم دكتاتوري مجنون.
حطت طائرتي بمانيلا دقائق قليلة قبل منتصف الليل وكانت رحلتي الثانية في اتجاه أحد الجزر السياحية بعد ست ساعات، اقترح علي سائق سيارة الأجرة أن يقلني إلى ملهى ليلي صغير قرب المطار وأن يعود ما إن تقترب رحلتي الموالية، كنت أظن أن الملاهي هنا تشبه تلك التي تركتها خلفي في سيول عاصمة التقدم والتكنولوجيا لكنني وجدت نفسي في مستنقع من المتحولين الجنسيين وبائعات الهوى، جلست في طاولة بعيدة عن الصخب وأخدت أرتشف عصير المانجا الذي قدمته لي صاحبة المكان بنفسها، دخلت معي في حوار شبيه بمعاكسة من قبل رجل مسن تغزلت تارة بعيناي وتارة أخرى بجمالي الاستوائي الذي لا يوحي من أي بلد قدمت علمت بعدها أنها خبيرة في المتاجرة بالفتيات.
السفر هو الشيء الوحيد الذي يعطيك دروسا عن نفسك، عما أنت وعن ما يمكنك صنعه، عن قدراتك التي لا يمكنك اكتشافها وأنت في كنف سريرك الدافئ في حضن عائلتك وبيتك، السفر هو الوحيد القادر على إخراجك من مساحة الأمان التي تعشش بها.. ستواجه نفسك قبل مواجهة العالم ستتعرف على نفسك أولا ثم على أشخاص سيطبعون حياتك إلى الأبد ستكتشف ثقافتك في حضرة ثقافة جديدة لا تفقه عنها شيئا، حين تسافر تعلم أنك وحيد في مواجهة كل الأشياء الأخرى، لا شيء يشبهك، لغة غريبة، وجوه غريبة، جو مختلف، ديانات مختلفة، عادات وتقاليد لم يخطر لك يوما أنها موجودة في مكان ما من الكرة الأرضية.
حين تسافر تدرك مدى صغرك في هذا العالم وأن الحياة توجد في أماكن أخرى رغما عن أنفك، فإما أن تذهب للبحث عن كيف تعاش في باقي بقاع العالم وإما ان تموت كالسمكة لا تعلم عن الكون سوى المياه التي تسبح بها.
الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.