مارست السلطة السياسية والدينية دائما الإقصاء والمحاربة والسجن كحل ناجع للقضاء على أي فكر أو رأي مخالف، ولعلي هنا سأذكر بعض الأمثلة من العالم الإسلامي بصفته المتهم الأكبر الآن في قضايا الإرهاب، في بداية الإسلام وحين توفي النبي الأكرم محمد عليه الصلاة والسلام، تم إقصاء الأنصار وهم الداعم والرافد الأول للإسلام من الحكم، وتم قتل زعيمهم سعد ابن عبادة بعد فترة وجيزه من ذلك لبسط السيطرة العظمى، وقمع أي فكر مخالف، وتم تلفيق التهمة للجن في حادثة غريبة لا يقبلها عقل إنسان، وبعد ذلك بفترة بسيطة بدأ الخلاف بين علي ومعاوية بإصرار كل طرف في النزاع على أنه الأصوب، وقتل في ذلك خيرة الصحابة وأشراف بني هاشم ولم يغفر لهم صلتهم بالنبي صلى الله عليه وسلم أو علمهم قاتليهم من قتلهم شر قتلة، وكانت هذه بداية الإقصاء السياسي في عهد الإسلام، وما نتج عنها من ملايين الضحايا حتى يومنا هذا، وبروز أكثر للفكر المتطرف والحركات المتطرفة بعد أن اتخذت هذه الافعال ذريعة لكل ما تلاها.
وفي سياق الإقصاء الديني نجد العشرات من الأحداث في العصر الإسلامي تم فيها إقصاء طائفة معينة أو فكر معين، ومحاربتها لمخالفتها الجماعة، في البداية كانت للمرتدين بحروب الردة، والتي تعتبر الآن المسوغ الأكبر لحد الردة في الإسلام لعدم وجود نص واضح له في القرآن الكريم مع خلاف بعض العلماء بأن الحكم يعزى إلى سيادة الدولة وليس الدين، ومن ثم الحروب بين السنة والشيعة، خصوصا في فترة الحكم العباسي، بل إنها وصلت إلى حروب بين الطائفة الواحدة مثل حروب الشيعة فيما بينهم، بعد وفاة جعفر الصادق والتي كانت بين القرامطة الإسماعيلية وبين الإثني عشرية. وقد تجرأ القرامطة بعد ذلك إلى غزو مكة وسرقة الحجر الأسود منها ونقله إلى الطائف. ولا ننسى هنا الإشارة إلى بعض أشهر الحروب الدينية بين طوائف الديانات الأخرى على سبيل الذكر لا الحصر ؛ حرب الثلاثين عاما في القرن السابع عشر بين الكاثوليك والبروتستانت، كل هذه الأفعال أنتجت فيما بعد ترسيخ فكرة إقصاء المخالف وما نتج عنها من طوائف وفئات متطرفة دينيا أو سياسياً.
إن كنا جادين حقاً في مكافحة الإرهاب؛ علينا أولاً أن نعزز التعددية الفكرية وتقبل الآخر مهما كان رأيه مخالفاً للإجماع، وأن ننمي الوعي السياسي وأحقية الشعوب في تقرير مصيرها وتوجهاتها |
وننتقل الآن إلى مفهوم العدالة ودورها البارز في تكوين فكر المحاربة والقتل كحل، ولعلها الأبرز في تاريخ البشرية، مثل الثورة الفرنسية التي استمرت لأكثر من مائة عام نتيجة غياب مفهوم العدالة في المجتمع الفرنسي في تلك الحقبة، وبعضهم وصفها بأنها أول وأعظم الثورات الليبرالية في التاريخ، ولا ننسى هنا الثورة الروسية في بداية القرن العشرين والثورة الصينية، كل هذه الثورات كانت نتاج غياب مفهوم العدالة الشامل في المجتمع، العدالة الاجتماعية والمالية والسياسية، وما نتج عنها من قتل وإرهاب لكل المخالفين لعشرات السنين التي تلتها.
ثم إن السبب الثالث هو الفساد المالي والإداري للسلطة الحاكمة وأثرها على تعزيز الفكر المتطرف، ولعل أكبر مثال على ذلك الثورة المصرية المعاصرة التي كان من أهم أسبابها حالة الفقر والعوز للمواطن نتيجة عدم تناسب دخل الفرد مع المصروفات كمحصلة للفساد الإداري والمالي للسلطة وما نتج عنه من بروز حركات متطرفة تبيح القتل بالجملة لكل من خالفها.
لذلك لو حللنا ما يحصل اليوم من تنامي للإرهاب والتطرف في العالم الإسلامي لوجدنا أنها نتاج ثلاثة أمور هي الإقصاء الفكري أو السياسي، منظومة العدالة، والفساد الإداري والمالي، ومع هذا كله نجد أن مكافحة الإرهاب تقتصر فقط على قتل الإرهابين ولا تتجه إلى معالجة أسباب الإرهاب وجذوره، فالإرهاب بغير حاضنة شعبية سينقرض في سنوات قليلة جدا، أما محاربة المتطرفين والإبقاء على كل أسبابه سينتج دوماً إرهاباً أكثر، وانحطاطاً أكبر، واستبدادً أخطر.
فإن كنا جادين حقاً في مكافحة الإرهاب؛ علينا أولاً أن نعزز التعددية الفكرية وتقبل الآخر مهما كان رأيه مخالفاً للإجماع، وأن ننمي الوعي السياسي وأحقية الشعوب في تقرير مصيرها وتوجهاتها، وأن ننمي مفهوم العدالة الشامل ليشعر الفرد في المجتمع بأنه قادر على أخذ حقه تحت سلطة الدولة، وأن لا يصبح فريسة التطرف ومحاربة الدولة والإنسانية جمعاء، فكان وما زال شعور الظلم هو الشعور الأقوى والأخطر لانتقال الفرد من السلمية إلى القتل، إذا حققنا كل ذلك مع مكافحة جدية ممنهجة للفساد الإداري والمالي للمجتمعات العربية والإسلامية خصوصاً.. سنجد في غضون سنوات قليلة أن التطرف والإرهاب أصبح من أحاديث الماضي ومن يغض الطرف عن أسباب الإرهاب ويحارب الإرهابي سيجد نفسه ودولته ومجتمعه أول الساقطين الخاسرين.
الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.