شعار قسم مدونات

"العلوم السياسية" تخصص يلفظ أنفاسه الأخيرة

blogs طالب في مكتبة

كل ما يمكنك قراءته أو سماعه عن علم السياسة، بإمكانه ربما أن يفتح الشهية لأي شخص كي يدرس هذا التخصص الذي يبدو من ظاهره تخصصا ثريا – وهو كذلك -، كونه يمّكنُ طالب العلمِ من الاطلاع على عديد من الأمور، كالفلسفة، القانون، الاقتصاد والتاريخ، بالإضافة إلى علم النفس والاجتماع، كما من شأنه أن تجعل منه إنسانا ذو فكر متفتح على الآخر، لا يأخذ كل ما يتلقاه هكذا، بل ينظر إليه بعين الناقد والمحلل، لكن الواقع أبعد من أن يكون بهذه البساطة.

 

فبالكاد يمكننا أن نطلق على حقل العلوم السياسية في الجزائر صفة التخصص العلمي، ولا تنطبق عليه أدنى الشروط الواجب توافرها في أي تخصص علمي بالمعنى الحقيقي للكلمة، والسبب بدون شك يرجع إلى الوضع المزري الذي يتخبط فيه هذا التخصص النخبوي كما يطلق عليه في الدول التي تقدس العلم، صحيح أن التعليم في الجزائر عموما حاله لا يسر عدوا ولا حبيب، فالأمر هنا لم يعد مقتصر على العلوم السياسية فقط، بل أصبح مرتبطا بكل التخصصات العلمية والأكاديمية الأخرى.

إن الوضعية الصعبة التي آل إليها هذا التخصص بالذات غير مسبوقة وتستحق فعلا التوقف عندها، لمعرفة أسبابها ومحاولة الوصول إلى إجابة من شأنها ربما – وهو أمر مستبعد – أن تحرك سكون القائمين على هذا الميدان ومعرفة الهدف وراء إفراغ هذا التخصص من محتواه وتحويله إلى تخصص ميت غير مؤثر، خاصة إذا ما تعلق الأمر بتخصص لطالما كان ولا يزال، يبشر بمستقبل استثنائي في الدول التي سبقتنا.

 

إن مئات المذكرات والرسائل الجامعية المنجزة سنويا بالعلوم السياسية قائمة على تكريس الرداءة في البحث العلمي، ومناقشة نفس الأحداث والظواهر السياسية، بنفس الطريقة ونفس الأسلوب المعتمِد أساسا على التكرار والنمطية
إن مئات المذكرات والرسائل الجامعية المنجزة سنويا بالعلوم السياسية قائمة على تكريس الرداءة في البحث العلمي، ومناقشة نفس الأحداث والظواهر السياسية، بنفس الطريقة ونفس الأسلوب المعتمِد أساسا على التكرار والنمطية
 

الدول التي تستثمر في العنصر البشري من خريجي معاهد الحقوق والعلوم السياسية، من خلال إعداد الشباب للحكم وتولي القيادة، والعمل على تدريبهم في مختلف مؤسسات الدولة كالبرلمان أو الانخراط في الأحزاب السياسية التي تحمل برامج حقيقية، أو عن طريق التدرج في مختلف الوظائف الدبلوماسية، دون أن ننسى العمل في إطار منظمات دولية ووطنية تسعى للارتقاء بالأداء السياسي لصناع القرار في بلدانهم وهو الشيء الغائب في مجتمعاتنا التي تجبرك على أن تسلك كل الطرق الشرعية وغير الشرعية إن أردت أن تصبح سياسيا.

تخصص العلوم السياسية والعلاقات الدولية في الجزائر لم يستطع أن يتجاوز مسألة التنظير والتحول نحو التطبيق، مئات المذكرات والرسائل الجامعية المنجزة سنويا قائمة على تكريس الرداءة في البحث العلمي، ومناقشة نفس الأحداث والظواهر السياسية، بنفس الطريقة ونفس الأسلوب المعتمِد أساسا على التكرار والنمطية، أعمال ينجزها طلبة وباحثون ويشرف عليهم أساتذة كل سنة دون جدوى، أعمال لم تأخذ طريقها نحو إيجاد حلول حقيقية للمشاكل السياسية والاقتصادية المستعصية التي تعيشها الجزائر، وهو صلب ما يتم تداوله في دراسة النظم السياسية وكل ما يدور في عالم السياسة من نشاطات وأحداث ذات صلة بشؤون السلطة والحكم.

 

ما الفائدة من كل هذه البحوث عندما تُركن في المكتبات ولا يستعملها سوى أهل الاختصاص من حين لآخر ما دام لم يتم ربط كل هذا الكم من الإنتاج العلمي للجامعة الجزائرية، ولهذا التخصص تحديدا بالواقع السياسي الاقتصادي والاجتماعي من أجل الإسهام في جهود التنمية، والدفع نحو التغيير الحقيقي على أرض الواقع بعيدا عن الشعارات.

هل يتم العمل حقا على الرفع من قيمة هذا التخصص وإعادة الاعتبار له بعد سنوات من التقهقر الممنهج والمقصود من خلال رفع معدل القبول للالتحاق بشعبة العلوم السياسية إلى 12 من 20، وفتح المدرسة الوطنية العليا للعلوم السياسية للتكوين في طور الليسانس بعدما كانت مقتصرة على طور الماستر فقط سابقا، أم أنها خطوة جديدة نحو نهاية هذا التخصص النخبوي، علما أن عدد الطلبة المقبولين لدراسة تخصص العلوم السياسية للموسم الجامعي 2017/2018 لم يتجاوز عتبة 70 طالبا بالنسبة لجامعة الجزائر 3، وهو رقم ضئيل مقارنة بالسنوات الماضية عندما كان معدل القبول يبدأ من 10 من 20، والأمر نفسه بالنسبة للكليات الأخرى المتواجدة عبر الوطن التي تعرف عزوفا ملحوظا عن اختيار هذا التخصص.

نقطة أخرى تضع تخصص العلوم السياسية في الجزائر على المحك، وهي مسألة التوظيف، فمما لا شك فيه، أن الطالب في أي بلد حول العالم يسعى من خلال التخصص الذي اختار دراسته في الجامعة، أن يصل إلى المكان الذي يطمح إليه، أمر أصبح غير موجود حاليا في الجزائر بحكم التغيرات الكبيرة التي طرأت على سوق العمل الذي لا يخضع هو الآخر لأية شروط تنظيمية محددة تحكمه، بالإضافة إلى التحولات الاقتصادية وعوامل أخرى.

 

إن الحقيقة التي يصطدم بها معظم الحاملين لشهادة العلوم السياسية بعد التخرج هي تملص أرباب العمل عن توظيفهم بمجرد علمهم طبيعة التخصص مما يضطر البعض للجوء إلى الواسطة

فإن حاملي شهادة العلوم السياسية بعد التخرج يجدون أنفسهم أمام خيارين لا ثالث لهما، فأما الأول وهو العمل في أي مجال آخر مهما كانت صعوبته، واختلافه مع ما درست، أو اللجوء إلى القطاع الأمني، أو العسكري وشبه العسكري، أما الثاني فهو الوقوف إلى جانب زملائك في التخصص مع الآلاف من حاملي الشهادات الجامعية الأخرى في طوابير طويلة من العاطلين عن العمل، لأن البطالة في هذه الحالة شاملة لكل التخصصات.

حتى بالنسبة لمسألة التوظيف في قطاع التربية، فبالعودة بضع سنوات إلى الوراء، كان خريجو العلوم السياسية والحقوق غير معنيين بالمشاركة في المسابقات الوطنية الخاصة بالتوظيف في قطاع التربية والتعليم وباقي عروض التوظيف في القطاع العام، حيث كان هذا التخصص غير مدرج في مختلف عروض التوظيف المعلن عنها، والأمر ربما أشد وطأة في القطاع الخاص بالنسبة للطامحين في العمل بشهادة مماثلة.

 

أين يتملص أرباب العمل عن التوظيف بمجرد علمهم طبيعة التخصص، وهي الحقيقة التي يصطدم بها معظم الحاملين لشهادة العلوم السياسية حتى لا أقول كلهم، بعد التخرج والبدء في رحلة البحث عن وظيفة كمن يبحث عن إبرة وسط كومة من القش، وهو الوضع الذي لا ينطبق بطبيعة الحال على الفئة القليلة جدا التي تعتمد على الواسطة.

في الحقيقة، ربما يكون الأمر أعمق من كونه مجرد سوء في التسيير، فقد أصبحت هذه الظاهرة – بحكم التعود – السمة الأبرز في كل مناحي الحياة السياسية والاقتصادية في الوطن العربي وليس فقط الجزائر، ولكن كيف يمكن أن ننظر إلى المستقبل ونحن على أعتاب أزمة اقتصادية خانقة كانت بوادرها قد بدأت تلوح في الأفق منذ سنوات، دون أن تولي الحكومات الجزائرية بصورة جدية اهتماما بنخبها السياسية والفكرية التي يتم تأطيرها في معاهد العلوم السياسية، فقوة الدول تكمن في قوة نخبها الثقافية والجامعية، التي يجب أن تمتلك بدورها قوة اقتراح أساسية لا يمكن بأية حال من الأحوال التخلي عنها، فهي تعد مصدرا للتزود بالاستراتيجيات والبرامج التي من شأنها أن تجنب الدولة الوقوع في الكثير من الأخطاء.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.