شعار قسم مدونات

"إلين ديجينيريس" التي تلهمنا

blogs برنامج إالين

في غَمرة ما يعُج به عالمنا من مآس وأتراح، وسط التدني والميوعة اللذان يطغيان على السواد الأعظم من البرامج والإنتاجات في إعلام بلداننا العربية يلمعُ بريقُ أمل من إحدى استوديوهات مدينة بوربانك بمقاطعة لوس أنجلوس بولاية كاليفورنيا الأمريكية ليبُثَ في قلوب الملايين من متتبعي برنامجٍ حواري (Talk-show) عبر العالم جرعة حب وأمل وتفاؤل. فكرة البرنامج بسيطة في ظاهرها متفردة في مضمونها متجددة في تفاصيلها. فأما البساطة ففي التقديم والتفاعل العفويين لإيلين مع الجمهور ومع الكاميرات المنتشرة في جنبات الأستوديو دون تكلف ولا تصنع، وأما التفرد ففي المواضيع المُنتقاة والفقرات المؤثثة للبرنامج، وأما التجدد ففي التطرق كل مرة لموضوع جديد ببعدٍ جديد وبأسلوبٍ مغاير يزدادُ إبداعا يوماً عن يوم. 

دعوكُم من البرامجِ الحوارية المُملة التي تملأُ معظم الفضائيات والقنوات العربية والتي لا تُسمنُ ولا تُغني من جوع، تغوصُ في مستنقع الرداءة وتجعلُ من التجهيل فلسفتها، دعوكُم من تلك البرامجِ التي تقذف الناس وتتهمهم في أعراضهِم، تُساوم على نشر الفضيحة أو سترها مقابل مصالح ومبالغ تُدفع تحت الطاولة، تُهلل لهز الخصر وتحجب المبدعين وأصحاب الأفكار النيرة، تُطبع مع الفساد الأخلاقي وتسعى لبث اليأس في النفوس فلا يجتهد مجتهد ولا يطمحُ طامحٌ.

بغض النظر عن مشاربهم ودينهم ودون الاكتراث بأعراقهم يُخاطب البرنامجُ إلين الإنسانية ويرفعُ من قدرها

(The Ellen DeGeneres Show) يتنوع بين استضافة نجم من نجوم هوليوود أو شخصية طبعت العالم بفكرها ودعوة الجمهور للتنافس على رُكح الاستوديو والتطرق لحالة إنسانية من عموم الناس راسلت البرنامج أو تناقلتها وسائل التواصل الاجتماعي أو وصلت معدي البرنامج بطريقة أو بأخرى، فتجدُ الاهتمام والمساعدة بالشكل الذي يحترم كرامتها ومكانتها الإنسانية. يطرقُ البرنامج منازل الناس في الولايات الأمريكية المُختلفة، يفاجئهُم بمساعدة مالية للتغلب على تكاليف الحياة وتدريس الأبناء أو بتجديد منزل متهالك أو سيارة جديدة. كلُ ما يبتغيه رسم الابتسامة على وجوه المحتاجين وإدخال الأمل على المتتبعين وتحفيز الناس أجمعين.

روعةُ البرنامج الحواري تكمُن في تقديره للمبادرات الفردية مهما بدَت بسيطة إذ يُشجع الطفل الموهوب في الغناء والطفلة النابغة في الطب وينتشل تلاميذ الأحياء الهامشية من الفقر والعزلة ويُساعد المدرسين على بذل المزيد ويُحفز عامل النظافة على التعلق بمهنته وحبها، يرفعُ من قدر الأم ويهون عليها صعاب مسؤوليات التربية، يُصحح نظرة الأمريكيين للمسلمين ويصالحُ المهاجرين مع نمط الحياة الأمريكية. 

بغض النظر عن مشاربهم ودينهم ودون الاكتراث بأعراقهم يُخاطب البرنامجُ الحواري الإنسانية ويرفعُ من قدرها، فترى في الاستوديو جمهوراً متنوعاً بين الأمريكية الشقراء واللاتينية والإفريقية مثلما لا تستغرب حين تلمحُ محجبات بين الحضور. يُبدع هذا البرنامج الحواري بأريحية وحُرية بعيداً عن مضايقات السياسة وأهلها، عكس ما هو مَعمولٌ به في إعلام عالمنا العربي حيثُ تُفرض أجندات ضيقة على إعلاميين بعينهم فيخضعون لها ويُهللون ويُطبلون للرئيس والزعيم كلما اقتضى الأمر، ينحازونَ لفئات دون أخرى ويُهمشون من لا يجدون في استضافته ربحاً أو منفعة، يشتمونَ قادة وأنظمة من يُخالفهم ويعارضهم من دول رأت الحق حقاً فاختارت اتباعهُ. 

وبما أن من سلبيات مجتمعاتنا العربية حشر أنوف الناس في خصوصيات واختيارات الغير عوض التركيز على ما قيمته المضافة وإسهامه في الحياة، فقد يهتم كثيرون بميولات إلين ديجينيريس الجنسية قبل الالتفات لحسنِ صنيعها وقيمتها المُضافة في عالمنا. نعم إلين ديجينيريس مثلية متزوجة من امرأة من نفس جنسها، وإن كان لنا ما لنا من التحفظ والخطوط الحمراء التي نعي إطارها جيدا فذلك لا يعني أنها تستوجبُ السخط والمقاطعة مثلما يتوهم كثيرون، ذلكَ أنَ لكلٍ الحرية الكاملة في حياته واختياراتهُ والله وحدهُ الكفيل بمحاسبة الفرد، لا نحن الخطاؤون.

في موسمه الخامس عشر على التوالي يستمر إلين ديجينيرس شو في حصد المزيد والمزيد من المحبين والمُعجبين عبر العالم دون الحاجة لحملة إعلانات ترويجية ضخمة ذلك أنهُ يسمي الأمور بمسمياتها، يعالجُ هموم الناس ومشاكلهم بواقعية ويُنمي الوعي والعقل، متفوقاً على (The Oprah Winfrey Show) بحصده 59 جائزة من جوائز الإيمي أواردز وهي الجوائز التي تُمنح عن جدارة واستحقاق ومتربعاً على عرش المقاطع الأكثر مشاهدة على اليوتيوب. 

يفتحُ برنامج إلين أعيننا على طابوهات وإشكاليات ستعانيها مجتمعاتنا حتماً في عصر الإنترنت فتقوي لدينا المناعة لصدها والتعامل معها

إلين لا تترددُ كلما سنحت لها الفرصة في انتقاد سياسات ترمب انتقادا لاذعاً لا يخلو من رسائل تهم الأمريكيين والعالم، فتجدُها مناصرة للحريات الفردية وللأقليات في الولايات المتحدة، مدافعة عن حقوق الأطفال وعن مكانة المرأة ومُتضامنة مع المضطهدين عبر العالم. في إعصار هارفي الأخير بادر منتجو البرنامج إلى تدشين حملة للتبرعات على الفايسبوك ونجحتْ في جمع ملايين الدولارات عبر مساهمات فردية قدرت ب25 دولارا أمريكيا بالإضافة إلى مساهمات نجوم أمريكيين فبرزت إلين مجدداً مواطنة متأهبة في وقت الشدة مثلما عهدها متتبعوها.

عدا عن أن البرنامج ممتع ومفيدٌ ومغذٍ للفكر والروح فهو زاخر بفوائد أخرى على المتتبع العربي، يطور من المفاهيم الإنسانية ويعرفنا أكثر على المجتمع الأمريكي وخصوصياته، يطور مدارك الفرد اللغوية بالإنجليزية ويُثري قاموسه الخاص، يفتحُ أعيننا على طابوهات وإشكاليات ستعانيها مجتمعاتنا حتماً في عصر الإنترنت فتقوي لدينا المناعة لصدها والتعامل معها، والأهم أنهُ يأتينا دائماً بالجديد من المواضيع التي وجبَ إسقاطها على أحداثٍ مشابهة في مجتمعاتنا. 

إلين التي تحثُ متتبعيها في كل حلقة من حلقات برنامجها على الإحسان للإنسانية بمقولتها الشهيرة (Be kind to one another) تُلهمنا وإن اختلفت الثقافات وتراوح حجم المشاكل والهموم، تُلهمنا بإنسانيتها وانحيازها للإنسان بغض النظر عن دينه أو عرقه أو أصله، تُلهمنا في وقتٍ تتشدقُ فيه أفواه الكثيرين في إعلامنا ليل نهار بالسعي لإمتاع ناظريهم بما ساء وذل من المحتوى. إلين تُلهمنا ببساطة لأنها تُوَعي قبل أن تُضحك وتُرشد قبل أن تستهزئ وتشجع البسطاء بحب وكرمٍ.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.