شعار قسم مدونات

ظلال الغريب

blogs سفر
أكان علي أن أحمل حقيبة سفري وأرحل هكذا، اشعر بأن سنوات الغربة أدمت سنين عمري، هل كان الهروب من مشاكل البطالة ومصائب الفقر والضرائب والديون التي تتراكم علي أسبابا كافية لأرحل، أشعر الآن بأنني امتلكت كل شيء وخسرت كل شيء. الآن أستطيع شراء عشر أحذيه من أفخم الماركات بدلاً من الحذاء الممزق الذي لم أكن أملك غيره وأمضيت أيامي الثانوية فيه حتى ضحك أصحابي عليه حين شق من المنتصف، وفتح فاهه استسلاماً ووداعاً أخيراً لكنني لاأستطيع شراء صديق واحد ولا حتى ضحكة واحدة من ضحكاتهم، أدرك أنه لم تكن سنوات الغربة سهلة علي ولم يكن يتعين علي أن أعيشها كما يجب، وبأني أرى فيها الجفاف والبعد والحزن حولي في كل شيء، ظنت أن غربتي لن تطول على عكس ما حدث معي، فقد أردت أن أجمع من المال ما ينسيني سنوات الفقر والعوز والمذلة.
مرت أعوام عديدة كنت أحلم فيها بالعودة إلى وطني، أربعة عشر عاماً كان فيها البرد ينهش كل أجزاء عقلي قبل جسدي ويغير فيَّ كل المعالم الموجودة، لكني لم أكن لأسمح له بالاقتراب من ذاكرتي التي أحمل فيها أجمل تفاصيل حياتي، أصدقائي الذين يقبعون في مخيلتي وأهلي وكل تفاصيل وطني التي أحفظها عن ظهر قلب.

عندما سافرت شعرت بأني خنت وطني وأهلي وأصدقائي، والأهم بأني خنت نفسي أو بعتها عند أول عقد عمل خارجي، لذلك كان يصعب علي الابتسام أوالضحك، لكأن الضحك صار ينقصه حضورهم دائماً فلا معنى للابتسام دونهم، فكانت أي ابتسامة تشق طريقها عبر وجهي بكل ألم لتغير معها ملامحي وتصنع ملامح آليه بديلةً لي.

وصله كرت دعوة لحفل زفاف أخته الصغيرة مرام، مرام تلك الطفلة التي تركها صغيرة ذات الأعوام العشرة أصبحت الآن عروساً. زيارة لبلاده! بدأت الحياة تدب في أعضاء جسده الهزيل. وأخذ يستحضر ذكرياته وما سيكون عليه لقائُه بمن يحبهم أهله وأصدقاءه. أن تأتيه زيارة بعد مدة من المغيب هو شيء أشبه بالحلم بالنسبة له. وقرر أنه سيرتبط عند عودته بمن تهون عليه سنوات الغربة القادمة، سيأخذها كأغلى الأشياء من هنا لتكون له هناك بيتا ووطنا في ذلك المكان الغريب.

وطنه تغير أيضاً كثيرا عما تركه عليه؛ أصبح ذو مبانٍ عالية والناس لم تعد كما تركها، ناس أغنى بكثير وناس أفقر بكثير أيضاً. لم يجد أي شيء كما كان
وطنه تغير أيضاً كثيرا عما تركه عليه؛ أصبح ذو مبانٍ عالية والناس لم تعد كما تركها، ناس أغنى بكثير وناس أفقر بكثير أيضاً. لم يجد أي شيء كما كان

فعاد للوطن حاضراً بكل حواسه وحنينه، روحه تسبق جسده بآلاف الخطوات، لكنه وجد أن أهله لم يعودوا كما كانوا، ولا كما تحملهم ذاكرته، الأطفال لم يعودوا أطفالاً، والشباب لم يعودو شباباً، أما أصدقاءه فقد اختلفوا كلياً، أصبحت الهموم مرافقة لملامح وجوههم واختفت ملامح البراءة منها، فشعر بنفسه كالغريب عنهم وبدأ بمحاولة التعرف إليهم. حتى وطنه تغير أيضاً كثيرا عما تركه عليه؛ أصبح ذو مبانٍ عالية والناس لم تعد كما تركها، ناس أغنى بكثير وناس أفقر بكثير أيضاً. لم يجد أي شيء كما كان بل أراد السكن في مخيلته بدلاً من المكان الغريب الذي وجد نفسه فيه وحيداً كأنه ظلٌ قابعٌ فيه يجلس بين الجميع ولايدرك أحداً.

بعد زفاف أخته بمدة بدأوا بالبحث له عن فتاة مناسبة، وأخيراً وجدوا له فتاة أحلامه فارتبط بها. لكنه لم يدر أنها كانت تحب شخصاً آخر، إلا أن أهلها رفضوه لفقره وعدم مقدرته على إتمام دراسته، وعلى الرغم من كل محاولاتها لإقناعهم. لم تحتمل السلب الذي حصل لها فمرضت بعد خطبتها بشهر وبدأ جسدها بالتخلي عن الحياة، بدأت روحها التي رفضت هذا الظلم بالبحث عن مكان آخر لتتحرر فيه، أخذ جسدها بالهزل وبدأ ينعكس على وجهها الشحوب وبدأت خصال شعرها بالتحرر فكانت أول ما سقط منها بحثا عن الحرية.

سيطر عليه الجنوح والحزن والصمت وحاول أن يقنع نفسه بالنسيان وبأن ما عايشه ما كان إلا مجرد كابوس عابر انتهى، وأقنع نفسه بأن الأيام قادرة على محو خطى الألم

رفض التخلي عنها رغم مرضها، وزاد إصراره عليها، أراد لها الحياة بكل قوة، كان يعتقد أن وقوفه إلى جانبها يدعمها ويجعلها تتخطى ما أصابها. وكلما عاملها بلطف أو دعمها لتخطي ما أصابها كلما كان مرضها يزداد، لم يمض وقتٌ طويل حتى فارقت روحها جسدها الهزيل. يومها وقف كالمغفل في الشارع وأسند ظهره للريح على قارعةٍ لطريق فارغ إلا منه بدأت ظلاله بالتحرك دونما هدف مرجو وأخذت حبات المطر بالانهمار عليه من كل جانب كان وحيداً وعارٍ من كل شيء حتى من ذاته ولم يكن يهمه الألم الجسدي ولا حتى البرد الذي حظى به فروحه تتمزق.

تحول كل ما حوله إلى عباءة قاتمة من ليل وظلام، سواد يكسوه السواد عام حزنه أعوام من الحزن، لم يحتمل ما أصابها فهي كانت له نفس الصباح والروح الرقيقة التي أراد أن يلمس الحياة من خلالها، ثم لام نفسه وعاتبها على التقصير ظنا منه أنه لم يفلح بمساعدتها على تخطي ما أصابها، بكى فذبلت روحه وتعب جسده وأن قلبه من الوجع وظل يسمع همسها في كل مكان. بقي أهله قربه يسايرونه ويحاولون جمع حطامه ورتق قلبه لكنه كان أبعد ما يكون عنهم. طلب منهم أن يتركوه يذهب وحيدا إلى قبرها. هناك وجد شاباً جالساً يبكي عند قبرها فجلس بقربه وبدأ الشاب يخبره عن قصته معها، فعلم هو بحقيقة الأمر في الوقت الذي لم يكن يتوقعه ابداً فأخذ بالتقوقع على ذاته، وشعر بأن الأشياء تتداعى من حوله لا شيء يدعو للفرح.

كان ظلها عالقاً بين الشجر وعطرها باق بين ثنايا الدفتر وصدى كلماتها يتردد بين هنا وهناك وظلّ هو وحيداً في المكان يستجمع ذكراها وصمتها وألمها، بدا له الأمر شبهَ مستحيل ولا يمكن أن يكون ما قيل له صحيحا وبدأ بتضليل نفسه وخداعها لكنه لم يفلح. وكان وعلى الرغم من معرفته بالحقيقة ينتظر ظهورا لها بين الفينة والأخرى ظهوراً ولو لمرةٍ واحدة. من شدة التأذي كانت كل الكلمات المحتشدة عالقةٌ في حلقه محتجزة تكتم أنفاسه ولا تجد سبيلاً للخروج الا كقطرات ماء تتقافز سريعاً على خده.

شعر بالغربة في وطنه غربة تغص في روحه حتى كادت روحه تفارق جسده فعاد مهاجراً حيث منفاه فلم يعد ينوي العودة مطلقاً إلى حيث ظن أن وطنه نجاة لكنه لم يكن كذلك مطلقاً. أدرك أنه جمع الكثير من المال ليشتري القليل من اللحظات التي لن تعود وأدرك أنها كانت مملوكة له بالمجان، الحب المفقود الأصدقاء حتى أهله الذين لم يشعر بأنه أحد أفرادهم، وعلى من كل ذلك أدرك أنه أمضى حياته كلها غريب، في الماضي كان غريباً بسبب الفقر والحاجة والآن هو غريب عن كل مكان يذهب إليه لا وطن له إلا غربته هو ليس أكثر من ظلٍ غريب أينما حل.

سيطر عليه الجنوح والحزن والصمت وحاول أن يقنع نفسه بالنسيان وبأن ما عايشه ما كان إلا مجرد كابوس عابر انتهى، وأقنع نفسه بأن الأيام قادرة على محو خطى الألم وقرر أن يفني نفسه بالغربة وألا يعود أبداً. غادر مهاجراً وبعد أن مر عليه أسبوع واحد لسعه صقيع البعد وأماتته الوحدة وخنقه جفاف الحياة هناك وبدأ الحنين يدب في أوصاله ودار في خلده أن ما حدث له ليس بذلك السوء الذي يظنه.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.