شعار قسم مدونات

صديق الغرباء.. كائنات زرقاء وحيدة

Blogs-social

يخالك الجالس خلف شاشته شخصاً مبتسماً على الدوام، فوق رأسك غيمة حظ لا تنضب، تحفظ رموز الابتسامات كلها بأصابعك دون أن تنظر، أزرار الوجوه الضاحكة التي لا تحزن، تخطّ على صفحتك الكثير من الأمل الذي تخلقه من العدم، تنثره هنا وهناك كطائر المحبة الأسطوري، تزرعه بين ثنايا القلوب المارة صدفةً وعن قصد، ممسكاً بفنجان قهوتك الباردة، ترد على المجاملاتِ وأنت أيضاً تبتسم، ترسم على وجهك ذلك الغموض الذي يحبّه الجميع، تمسح عرقاً خفيفا تدلّى من جبهتك، وتكمل طقوس حضورك المختلف عن العادة والمألوف. 

           

أنت صورةٌ جميلةٌ في خيال الكثير من الأشخاص، عالمٌ مختلفٌ قليلاً لكنه مثالي جداً، جاهزٌ دائماً لأن يصنع المعجزات الصغيرة، والتي تأتي غالباً على هيئة كلمات، كآلة تنتج السعادة، والتي لم يخترعها إلى الآن أي أحد. وجهك الضاحك ربما يكون سبباً في ابتسامة شخص ما لا تعرفه، حماقاتك التي تنشرها قد تجعل من شخص آخر ينتبه إلى ما يفعله، ربما أنت أكثر شخصٍ وحيد في العالم، لكن وحدتك تصنع منك شخصاً قادراً على التأثير ولو من باب الصدفة لا أكثر.

        

أنا كائنٌ وحيدٌ يحاول العيش بطريقةٍ ما أو بأخرى، يجرب الحياة علّه يعثر على وصفة جيدةٍ تعطي نتائج سريعة، يسقط في مراتٍ كثيرة، لكنه بعد كلّ مرة ينفض عنه غبار السقوط الأول والأخير، ويبحث عن طريقة أخرى حتى لا يسقط، وربما يفعل

أنت صديقٌ جيد لكلّ الغرباء، تحملُ في كفّك صكّ الوفاء الأوحد في هذا الكون، ربما في خيال شخص ما، أنت الكائن الخارق الذي كلّما تحدث معه شخص ما عن مشكلاته الكبيرة، تراءى له الحلّ في آخر المحادثة. الواقع ليس هكذا أبداً، فلا أحد يدركُ خبايا أحد، لا أحد يرى بعينه ما في قلوب الآخرين، ما من أحد يتصورك جالسا غارقاً في وحدتك، كاتماً لأشياء تعجزُ عن قولها للآخرين، لأنك تدرك أنّه ما من أحد يفهمك، لا أحد يفكر ربّما في لحظة عابرة، ماذا لو أنّك كنت سابحاً في بحرٍ من همّ، باحثاً عن بصيص من أمل ها هنا بين الآخرين؟ ما من أحد يرسم في خياله صورةً لك وأنت مطبقٌ برأسك على لوح المفاتيح، تفتّش بين الكلمات عن شيء ما يشبهك، شيء قريبٍ من ألمك، شيءٌ ما ينقذك، يستطيع أن يجعلك تضحك وتنسى ولو قليلاً حزنك؟ لا أحد يفكر بوضع يده على خرابِ قلبك، لربّما يرمم فيه ولو حائطاً من وهم.

          

أنت تواصل حزنك وخيبتك، ترمم بمفردك انكساراتك تباعاً، والمارون يواصلون الضغط على زر الإعجاب، كما لو كانوا يضغطون بشدّة على جرحك لينزف أكثر، ليوجعك أكثر، ولتشعر كلّ مرة بأنك وحيد وسط كلّ أولئك الجموع التي تأتي وتذهب. الآخرون أنانيّون بطبعهم، وأنت وأنا وكلنا أنانيّون ولا شكّ، حتّى في الحزن والألم، نخفي أوجاعنا، لا نريد لأحد أن يقترب، أن يمسك بمقبض آلامنا، أن يلمسها، فليست كلّ الأيادي بيضاء، وليست كلها ملساء، ليست كلّ القلوب نقيّة تقية دافئة، بعضها يخدش وبعضها يؤذي، والكثير منها يجرح ويكسر ويؤلم عميقاً جداً، لذلك مهما كان حجمها ووزنها نستبقيها دائماً لأنفسنا، أحزاننا لنا وجبة يتيمةٌ لكلّ يوم، وأفراحنا طبق دسمٌ معدٌّ مسبقاً على شرفِ كلّ العابرين. يخالني الجالس خلف شاشته، مصدر فرحٍ عابر، يتعثّر بي علّي أصيبه بعدوى البهجة والنشوة والانتصار، يحسبني إسفنجة تمتص الحزن والتعب، تذكرةٌ لدنيا هادئة بلا تعب!

             

أنا أيّها العابر في الغالب طقسٌ غائم جداً، سماءٌ ملبدةٌ بالغيوم والحروف وأشياء أخرى لا يراها أحد، مطر صيفي ثائر وربما موجة صقيع لا تحتمل، شمسٌ غائبةٌ وحاضرة، نجومٌ تأتي وترحل، ومجراتٌ وأكوانٌ وكواكبٌ لا تكفّ عن مهنةِ الدوران. أنا كائنٌ وحيدٌ يحاول العيش بطريقةٍ ما أو بأخرى، يجرب الحياة علّه يعثر على وصفة جيدةٍ تعطي نتائج سريعة، يسقط في مراتٍ كثيرة، يفشل في محاولاتٍ كثيرة، لكنه بعد كلّ مرة ينفض عنه غبار السقوط الأول والأخير، ويبحث عن طريقة أخرى حتى لا يسقط، وربما يفعل، لكنه أبداً لا يكفّ عن المحاولة. كائنُ لا يملك في يده عصا سحرية، ولا جنية تحقق الأمنيات، ما يملكه هو حاسةٌ سادسة تخبره بأن كلّ شيء في النهاية سيكون على ما يرام، أو ربما في أعماقه يحاول إقناع نفسه بذلك.

          

أيها المارّ من هنا، ما أكتبه هو أنا بحزني وفرحي، بخيباتي وانكساراتي، بنجاحاتي وفشلي، بفكري وعقلي، بكياني وضميري، بوجهي العابس والمبتسم، بقلبي ونبضي وأشيائي السخيفة والمهمة، بضحكي وابتساماتي، بجنوني وسخافاتي، بكل ما تعرفه وما لا تعرفه، بكلّ ما يعنيك وقد لا يعنيك بتاتاً، ما أكتبه هو أنا بتجاربي الذاتية والشخصية، ماعدا ذلك هو فقط خيالك المصور.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.