شعار قسم مدونات

العراق.. انتصار الطائفية على التعددية

General view of the Kurdistan Parliament meeting in Erbil, Iraq September 15, 2107. REUTERS/Azad Lashkari
تبني نُخب الشعوب وقادتها الدساتير على أساسين لا بد منهما؛ فتجعل من الثقافة المحلية وديانة الدولة عنصرين هامّين في تلك العملية، ويتغير تأثير كل منهما بحسب التشكيل الدستوري، والنظام الحاكم في البلاد. وفي هذا الصدد تبرز فكرة التعددية كتحدٍ واضح واختبار صعبٍ أمام الدول، مما قد يجعل منها نماذج ناجحة في مجال التعايش الديني والعرقي فيها، أو ما يأخذ البلاد إلى حيز صعبِ وضيّق، والذي يعكس بدوره سياسة لوت ذراع التعددية، أو لم تنجح في الوصول بالتعددية إلى بر آمن.
الرابحون والخاسرون في معركة التعددية
لقد نجحت دولٌ ككندا وبريطانيا وجنوب أفريقيا والهند في الخروج منتصرة في مخاض التعددية، بينما اختارت دولٌ أخرى مثل الاتحاد السوفييتي سابقاً، والصين، وميانمار، والجمهورية الإسلامية في إيران، والمملكة العربية السعودية، بقرارٍ سيادي سياسة العنصرية، وقمع التعددية وبسط سيطرة الحزب الواحد، أوالطائفة الواحدة على السلطة، فيما تظل دولٌ أخرى تراوح بين هذا وذاك، مثل ألمانيا التي تبدو دولة تعددية، إلا أن تصريحات مستشارتها أنجيلا ميركل تدحض ذلك، إذ تقول: "إن مفهوم التعايش جنباً إلى جنب ونحن سعداء بهذا التعايش لا يعمل"، كذلك الولايات المتحدة الأمريكية التي توسم لدى الأغلبية بأنها دولة تعددية، إلا أنها ما زالت إلى الآن تعاني من موضوع التمييز الشعبي بين البيض والسود، وعلى الصعيد الرسمي فليست بعيدةً تصريحات رئيسها دونالد ترمب التي بث فيها خطاباً عنصرياً ضد المسلمين.

التعددية وحقوق الأقليات في العراق
أما فيما يخص دولاً مثل العراق، وسوريا، ولبنان، فالأمور تختلف هناك؛ إذ إنها دولٌ تطبق عليها احتلالات من كل الجهات سواءً الثقافية أو الدينية أو حتى الجغرافية، بالإضافة إلى تفرد أنظمة الحزب الواحد أوالطائفة الواحدة في الحكم، ما يمنع تحقيقاً للتعددية فيها، وتأكيداً على ذلك فإنها وعلى المستوى الرسمي الحكومي؛ ترسم صورة من أبرز صور العنصرية والطائفية العرقية والدينية، تتضح في العراق من خلال ما أسماه موقع قناة (BBC) بـ"الاتفاق الواقعي الذي تواضعت عليه القوى السياسية العراقية"، والذي ينص بكل صراحة ووضوح، على وجوب أن يكون الرئيس من المكون الكردي، ورئيس الوزاء من المكون العربي الشيعي، بينما يكون رئيس مجلس النواب من المكون العربي السنيّ، ذلك ما يخالف مواد الدستور العراقي الذي أقرّ في العام 2005م في باب "السلطات الاتحادية"، والتي تنص على شروط الترشح للمناصب السيادية الثلاث، وتعطي الحق لكل مكونات الشعب العراقي بالوصول إلى تلك المناصب.

السير في تحالف رسميٍ عراقي مع إيران، لهو من شأنه تعزيز النهج الطائفي والتمييز العرقي الذي يتضح على الأرض من خلال عمليات التطهير العرقي بشكل أو بآخر
السير في تحالف رسميٍ عراقي مع إيران، لهو من شأنه تعزيز النهج الطائفي والتمييز العرقي الذي يتضح على الأرض من خلال عمليات التطهير العرقي بشكل أو بآخر

وفيما يخص التعددية المنصفة والحقوق العرقية والمذهبية، فالعراقي العربي إذن ممنوعٌ بموجب هذا الاتفاق من حقه في أن يكون رئيساً للعراق، كذلك يمنع العراقي الكردي أو السني من أن يكون رئيساً للوزراء، ثمّ إنّ هذه الحقوق وحقوق أخرى، تهدر وتصادر من مكونات أخرى كالأشوريين والسومريين والبابليين وأتباع الديانة المسيحية والديانة المندائية وغيرها في بلد يعد من أكثر بلاد العالم تعدداً عرقياً وثقافياً ودينياً.

التطهير العرقي والطائفي وسياسة القمع في العراق
كذلك فقد أدى وصول القوى والأحزاب العراقية المتحالفة مع إيران والموالية لها إلى السلطة ما بعد 2003م؛ إلى خلق وتعزيز حالة من التمييز الطائفي والعرقي في العراق، إذ تتهم الجمهورية الإيرانية بسعيها إلى بث الطائفية في العراق من خلال تصدير مبادئ الثورة الإيرانية كما أشار مرشدها الأعلى آية الله الخميني، وذلك حسب محللين عراقيين، تجلى في المباركة الإيرانية للانتفاضة الشعبانية عام 1991م، ومحاولات استعطاف وكسب شيعة العراق إلى صفها للدخول بغطاء شرعي إلى العراق على المستوى الرسمي فيما بعد، كذلك دخول مئات الآلاف من الإيرانيين بصورة غير شرعية إلى العراق كان آخرها باجتياز نحو نصف مليون إيراني للحدود من دون تأشيرة دخول عام 2016م، كما يستشعر آخرون الهيمنة الإيرانية، وتنفيذ مشروع احتلالي تظهر دلالاته في التصريحات الإيرانية المتكررة بأن "بغداد هي العاصمة التاريخة للامبراطورية الفارسية التي ستعود لتنهض من جديد"، والتي كان آخرها لمستشار الرئاسة علي يونسي، فيما صرح الجنرال قاسم سليماني في غير موضعٍ عن إنشاء الهلال الشيعي الذي من شأنه السيطرة على بلدان عدة في المنطقة وعلى رأسها العراق.

قضايا الحقوق المنقوصة والحريات المصادرة توضح حرية التعبير المفقودة في المجتمع العراقي، الحال ذاتها في سوريا التي خرج الناس في مظاهرات، تنديداً بسلبهم هذه الحقوق وبسياسة تكميم الأفواه

إن السير في تحالف رسميٍ عراقي مع إيران التي تبث هذا الخطاب صراحةً، لهو من شأنه تعزيز النهج الطائفي والتمييز العرقي الذي يتضح على الأرض من خلال عمليات التطهير العرقي بشكل أو بآخر، إذ يرى عراقيون بأن الحكومة مسؤولة عن تهجير مئات الآلاف من العراقيين، جرّاء معارك دارت في محافظات عدة كان الهدف الرئيسي الخفيّ منها عمليات التطهير العرقي، يدعم ذلك التقرير الصادر عن مركز جنيف للعدالة والمدعوم بشهادة النائبة العراقية ناهدة الدايني؛ أن التهجير القسري قد شمل نحو 60% من مناطق محافظة ديالى تحت إشراف المليشيات المسلحة غير الشرعية والممنوعة بحسب الدستور العراقي لعام 2005م، وهي الموالية لطهران والتي تعمل تحت إشراف من الحكومة العراقية وبالتعاون معها.

وأن الهدف من عمليات التهجير هو توطين إيرانيين مكان السكان الأصليين، كما وقد حذّر رئيس البرلمان العراقي سليم الجبوري في مقابلة مع "سكاي نيوز" من ارتكاب "المليشيات الطائفية" -كما أسماها- عمليات تطهير عرقي وفظائع في الموصل، على غرار ما شهدته مناطق عراقية عدة بعد تحريرها من "داعش" على حد وصفه، كما أكّد أن هذه المليشيات منعت الكثير من الناس في محافظات صلاح الدين وديالى التي تحررت من داعش، من العودة إلى ديارهم وأجبروا على العيش في المخيمات أو في مدنٍ أخرى. فيما اتهمت منظمة العفو الدولية قوات الحكومة العراقية ومليشيات موالية لها بارتكاب مجازر وعمليات تطهير عرقي تصل إلى جرائم حربٍ في حق مدنيين في العراق.

كذلك يروي عرب من السنة والمسيحيين قصصاً عن عودتهم إلى بيوتهم التي تركوها جرّاء المعارك في مدنهم، ليعودوا إليها ويجدوا سكاناً غيرهم يملكون أوراقاً ثبوتيةً بملكيتها، وما إن يصلوا إلى المحكمة حتى تقر بصحة وصدقية أوراق السكان الجدد وبأن أوراق السكان الأصليين مزورة. هذا عدا عن التصريحات الطائفية والعنصرية الرسمية، والتي تطلقها المليشيات المقربة من الحكومة، من ذلك تصريحات نوري المالكي التي قال فيها: "إن المعركة ما بين أحفاد الحسين وأحفاد معاوية ما زالت مستمرة وبيننا وبينهم بحرٌ من الدماء". كما ارتفعت أعداد المعتقلين السياسيين ومعتقلي الرأي في العراق إلى مئات الآلاف بحسب عبد العزيز الجميلي مسؤول ملف المعتقلين في الحراك الشعبي ورئيس لجنة العلاقات في منظمة الراصد الحقوقي.

المشهد العام لحرية التعبير والتعددية في العراق ودول المنطقة
كل هذه العوامل وغيرها من قضايا الحقوق المنقوصة والحريات المصادرة توضح حرية التعبير المفقودة في المجتمع العراقي، الحال ذاتها في سوريا التي خرج الناس بمظاهرات عارمة فيها، تنديداً بسلبهم هذه الحقوق وبسياسة تكميم الأفواه والتفريق العنصري والطائفي في بلدهم، كذلك لبنان الذي يُبقي إلى اليوم على دستور المحاصصة الطائفي الذي يحد من فاعلية التعددية ويجعلها عبئاً، ويؤجج الصراع الطائفي والعنصري.

في العراق؛ تظل الماكينة الطائفية تدس سمها في الدسم من قِبل قادتها، وتظل الدولة المدعومة بقوى خارجية احتلالية على حد وصف عراقيين ماضية في سياسة التعصب وقمع الحقوق والحريات التي تسود المشهد العراقي، حتى حصل العراق على مرتبة أخطر الدول في العالم، وبغداد أسوأ مدينة للعيش في العالم، بعد أن كان العراق أول من سن قانوناً، يحفظ حقوق مواطنيه.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.