شعار قسم مدونات

ما حاجتنا إلى السنة؟

مدونات - مكتبة إسلامية
عندما نصادف في كتب السنة حديث: "ألا وسيكذب عليّ من بعدي"، يتبين لنا أنه ليس كل ما يروى عن النبي صدق، فإن كان هذا الحديث صحيحا فقد كذب عليه، وإن كان كذبا فقد كذب عليه أيضا، بالإضافة إلى حديث: "لا تكتبوا عني، ومن كتب عني غير القرآن فليمحه"، قد يتساءل المرء عن قيمة السنة المنهي عن كتابتها، والتي شابها الكذب بدليل ما ذكرنا، الأمر الذي دفع كثيرا من المثقفين، بل وحتى من الباحثين في العلوم الإسلامية إلى التشكيك في حجية السنة، وأمام كثرة التناولات السطحية لهذا الموضوع سأحاول عرض هذا الموضوع على اعتبار أنه مجال تخصصي، محاولا إظهار ما أضمر في قضية حجية السنة النبوية.

بداية نتوقف مع مسألة النهي عن تدوين السنة، فلا يعزب عن أي دارس لسياق هذا النهي أنه نهي غير مطلق كما أنه معلل بعلة معينة؛ وهي مخافة اختلاط السنة بالقرآن، والحكم كما نعلم يدور مع العلة وجودا وعدما، وحتى لو كان نهيا مطلقا جازما فإنه لا تحمل دلالته على سقوط حجية السنة لأسباب كثيرة منها:

• أن التدوين المنهي عنه ليس الطريقة الوحيدة للحفظ والنقل خاصة مع البيئة العربية القائمة أساسا على المشافهة والرواية.
• كما أن دلالة القرآن على حجيتها أكثر من أدلة المنكرين لها، ما يجعل سقوط حجيتها متعذرا عمليا.
• ثم إن النبي لم يكن مجرد مكرر لما يعلمه الله من القرآن، حتى لا يكون كلامه مصدرا للتشريع، وإلا فلا ينسب له أمر ولا نهي وهذا خلاف الواقع.

منكرو السنة يظنون بحكم معرفتهم السطحية أن حاجتنا إلى السنة هي من باب الترف الفكري أو لأجل أغراض وعظية، ولكن حاجتنا إليها حاجة ابستيمولوجية محضة

أما مسألة الكذب على النبي فيحتج منكروا السنة أن تأخر التدوين دليل على انهيار آلية النقل ويزعمون أن تدوين السنة لم يبدأ إلا بعد قرون من وفاة النبي، وهو ادعاء لا أساس له من الصحة، وسقيم من الناحية العلمية؛ فقد ثبت التدوين في القرن الأول بل وفي حياة النبي؛ كصحيفة عبد الله بن عمرو بن العاص التي كانت تسمى بالصادقة، وصحيفة عبد الله بن مسعود التي كان يدون فيها تفسير القرآن عن رسول الله، ثم هناك صحيفة جابر بن عبد الله، وكثب بن عباس رضي الله عنهم، وصحيفة التابعي همام بن منبه (40-131هـ) وتسمى بالصحيفة الصحيحة، وهي موجودة كاملة في مخطوطتين متماثلتين في كل من دمشق وبرلين، ثم التدوين الرسمي للسنة في عهد الخليفة عمر بن عبد العزيز الذي استمر بين 99هـ و 101هـ أي قبل ميلاد البخاري بحوالي قرن. ثم انتشر التدوين المبوب في القرن الثاني؛ فجمعت الأحاديث في الجوامع والمصنفات، كـ "جامع معمر بن راشد" (154هـ)، و"جامع سفيان الثوري"(161هـ)، و"جامع سفيان بن عيينة"(197هـ)، و"مصنف عبد الرزاق" (211هـ)، وكتاب "الموطأ" للإمام مالك.

ثم إن افتراض أن الكتابة هي الوسيلة الوحيدة لحفظ الحديث ونقله هو افتراض خاطئ، لأن انتقال الرواية بالسمع والحفظ والتلقي لم يحل أبدا بين تحقيق الروايات بدقة، وما ذلك بغريب عن الطبيعة العربية التي حفظت المعلقات والقصائد المنظومة من مئات الأبيات، كما حفظت الأنساب الطوال من لدن يعرب وعدنان إلى عهد التدوين، وحفظت القرآن الكريم في الصدور قبل السطور. بالإضافة إلى ذلك فقد جعلوا احتمال الكذب في مرويات السنة مدعاة لظنيتها، الأمر الذي لا يليق بالتشريع الذي لا بد له من نصوص قطعية، وهذا الادعاء أيضا باطل من جهتين:

الأولى: أن الخبر عن الله ورسوله دلالة على صحة ما تناوله، لأن الكذب لا يجوز عليهما، كما أن في السنة أحاديث تكون طريقا للعلم الضروري ويكون الأخذ بها واجبا؛ لتحقيقها علما ضروريا، ذلك أن المخبرين بها أكثر من أربعة، ومخبرون عما علموا باضطرار، وهي الأحاديث المتواترة، وهي بالمناسبة بالمئات في مرويات السنة، فإن قيل قليل مقارنة مع آلاف الأحاديث الصحيحة والآحاد، قلنا: لو كان حديثا واحدا لكان واجبا اعتباره طريقا للعلم الضروري، من وجهين الأول أن هذه الأحاديث بمنزلة ما نشاهد، فلا نكلف أنفسنا النظر في الخبر بل في المخبِر، والثاني أن أصول الدين من أمهات العقائد وما تدعو الحاجة إليه كلها من المسائل المتواترة.

لولا السنة لما عرفنا أسباب النزول، ما يؤدي إلى فهم ناقص يزيد من المشقة والعنت؛ كقصر الصلاة مثلا، وإلى تضييع الواجب، وخسارة السلوكيات الحضارية الراقية

الثانية: أن الحديث المقتضي للعمل على جهة الظن، يكون أمارة للأحكام، حسبما تقتضيه الدلالة عقلا أو سمعا، ويكون الأخذ به أولى من تركه لأنه كما اعتراه الكذب تعتريه الصحة أيضا، فالعقل هنا يقتضي عدم صحة أن تكون أحاديث الآحاد كلها كذبا؛ فالعادة تمنع في الأخبار الكثيرة كذب رواتها جميعا على اختلافهم وكثرتهم، هذا ويشترط فيه كونه واقعا ممن لا يعرف عنه ما يقدح في عدالته، وتكون قوة خبره رهينة بقوة الظن بصفة المخبِر عنه أو بمزيد العدد، وهي نوعان:

أحاديث تتضمن علما: فإما أن توافق مقتضى العقل فيجوز فيها أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم قد قالها وبذلك تكون حجيتها قوية، أو لا توافقه فإن أمكن تأويلها من غير تعسف جاز أن يكون قالها، وأن لم يمكن تأويله إلا بتعسف لم يجز أن يكون قاله فلا يحتج بها.
أحاديث تتضمن عملا: مثل هذه الأحاديث لا يجوز العمل بها إلا إذا تكاملت فيها شروط العمل عقلا وسمعا، بموافقتها للعقل ولصريع السمع أو النقل.

وهذا وإن كثيرا من منكري السنة يظنون بحكم معرفتهم السطحية أن حاجتنا إلى السنة هي من باب الترف الفكري أو لأجل أغراض وعظية، ولكن حاجتنا إليها حاجة ابستيمولوجية محضة، تتجاوز كل ذلك، فالذين يدعون أن الإسلام قرآن فقط لم يدرسوا نصوصه ولم يعوا أبدا شساعة معانيه وطبيعته من حيث الاتساع والقابلية للتأويل؛ والتي لا يمكن أن تقوم إلا في تجاوز اللغة ومدلولاتها الاشتقاقية إلى رحاب الاصطلاحات الفكرية التي تتزاحم فيها المعاني والدلالات حد التصادم، ما أكسبه طاقة جبارة تبقى السنة هي الوحيدة القادرة على ترويضها وكبح جماح النص القرأني، كما في قوله تعالى: "إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِن يَوْمِ الْجُمُعَةِ"، فهو عام مستغرق لكل المسلمين، ما يشكل حرجا للنساء فأسقطت السنة وجوبها عليهن.

ثم في الأمر بإيتاء الزكاة؛ القرآن يأمر المسلم بإخراج زكاة ماله، دون التطرق لمسألة النصاب، فلولا السنة لوجب إخراج الزكاة حتى من المال القليل، وهذا خلاف المنطق ومقصد الشرع من الزكاة، وأيضا في مسألة قطع يد السارق لولا السنة لأدى عموم النص إلى إقامة الحد على من سرق درهما واحدا، في آية: "واضربوهن"، لولا كبح السنة جماحها وبينت أنه ضرب خفيف غير مبرح، لنزل على النساء من العذاب ما الله به عليم، ولكان كتاب "مطرقة الساحرات" عربيا مسلما، ولولا السنة لما عرفنا أسباب النزول، ما يؤدي إلى فهم ناقص يزيد من المشقة والعنت؛ كقصر الصلاة مثلا، وإلى تضييع الواجب، وخسارة السلوكيات الحضارية الراقية.

وختاما يقول الشوكاني: "والحاصل أن ثبوت حجية السنة، واستقلالها بتشريع الأحكام ضرورة دينية، لا يخالف في ذلك إلا من لا حظ له في دين الإسلام"؛ أي لا علم له به، فرجاء تعلموا يا من تخالفون في حجية السنة حتى لا تكلفونا عناء تعليمكم مع عناء الرد عليكم.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.