شعار قسم مدونات

لغتي موطني

مدونات - القراءة
هكذا وبصورةٍ مفاجأة في الساعة الثامنة صباحاً بيومٍ خريفيٍّ بارد، باغتتني مُدرّسة اللغة الألمانية بنكتة لتضحكني، بعد أن وصلت إلى مدرسة اللغة مُبللة تماماً، وعندما لم أضحك أعادتها عليّ باللغة الإنكليزية، فضحكت وأخبرتها أن روح الدعابة عندها أوضح في الإنكليزية منها في الألمانية، فالإنكليزية لغتها الأم. في الحقيقة لم يضحكني شيء في كلا النسختين من هذه النكتة، فالإفيه ابن بيئته، وإذا خرج من بيئته أُسيء فهمه، أو لم يعد مفهوماً، وأنا لا أنتمي لكلا الثقافتين.
أنا ابنة ثقافة جدّيّة، عندما تريد أن تُضحكك، لا ترمي نكاتها إلا بالعامية المغرقة جداً في المحلية، وتتعمد التلاعب بالألفاظ، بحيث إذا رويت نكتة عن الحماصنة -أهل مدينة حمص السورية- وهم فعلاً خفيفي الظل، لن يضحك عليها مصري، بل ستضحكه نكتة عن الصعايدة المرحين في صعيد مصر.. ولكني ضحكت، ضحكت لأني أحتاج إلى ما يفوق اللغتين للتفاهم معها، لإخبارها أن لغتي هي موطني، ومذ تراجع استخدامها إلى داخل حدود بيتي فقط، ما سكنت إلا في الغياب.

أحتاج إلى ما يفوق اللغتين لأشرح لها أن مشاعري وأنا أتحدث العربية، تختلف عند استخدامي الإنكليزية أو الألمانية، في الأولى أتحدث بكل جوارحي، وألون طبقات صوتي، أستخدم يديّ وتعابير وجهي، وفي الثانية والثالثة أتحدث كالروبوت، وأستخدم يديّ للمساعدة في إيصال الفكرة، لا تفاعلاً معها.

أحتاج إلى ما يفوق اللغتين لإعلامها بمدى عظمة لغتي، وأني كلما ازددت معرفةً بلغاتٍ جديدة، ازددت حنيناً لها وتعلقاً بها.

تضحكني نكتة بلهجتي الدمشقية المحكية أكثر من كلمة لول (LoL)، وتواسيني كلمة (الله يجبر بخاطرك) أكثر من كلمة "سوري"(Sorry)

أحتاج إلى ما يفوق اللغتين لأقول لها أن معجم  لسان العرب لابن منظور من القرن الثالث عشر يحوي أكثر من ثمانين ألف جذر للكلمة، بينما يحوي قاموس صموئيل جونسون من القرن الثامن عشر في اللغة الإنجليزية زهاء نصفها فقط، فهو لا يحتوي إلا على اثنين وأربعين ألف جذر كلمة فحسب.
وهل يُمكن دون استخدام اللغة العربية أن أتحدث عن المعلقات الشعرية، عن التشبيهات والاستعارات، عن علم العروض، عن علم النحو والصرف، عن الإعراب، عن تشكيل الحروف، عن حرف الضاد الذي ما نطق به إلا العرب.

وهل يمكن للغةٍ أخرى أن تُبيّن الإعجاز اللغوي في القرآن الكريم؟! وكيف أحكي لها قصة الوليد بن المغيرة -وهو على غير الإسلام- عندما سمع الرسول صلى الله عليه وسلم يتلو القرآن فقال: "والله ما فيكم من رجلٍ أعلم بالأشعار مني، ولا أعلم برجزه ولا بقصيده ولا بأشعار الجنّ مني، والله ما يشبه الذي يقول شيئاً من هذا، والله إن لقوله الذي يقول حلاوة، وإن عليه لطلاوة، وإنه لمثمر أعلاه مغدق أسفله، وإنه ليعلو وما يعلى، وإنه ليحطم ما تحته، وما يقول هذا بشر".

يذكر ابن خلدون في مقدمته أن "اللغة العربية طبعٌ في العرب"، لذلك ستضحكني نكتة بلهجتي الدمشقية المحكية أكثر من كلمة (LoL)، وستواسيني كلمة (الله يجبر بخاطرك) أكثر من كلمة (Sorry)، ستغريني كتب اللغة العربية وآدابها أكثر من كل علوم الجرمانيات ومن كل الأبجديات اللاتينية.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.