شعار قسم مدونات

قراءة إنسانية حول الموسيقى

blogs- الموسيقى
نتساءل كثيرًا حين نقف على فتوى تمنع ارتكاب أمر معين مع أنه لو فعله أي شخصٍ فلن يحدُث له ضررٌ ولا يؤثر في ممارساته الدينية وعباداته، ونقول حينها: ما سبب تحريم الفقهاء لهذا الأمر؟ ليأتي الجواب السريع: الشريعة جاءت وفق مراد الله ولا دخل لك في التحريم والتحليل! فنقول: نعم، لا دخل لنا في كل ذلك، لكن هاتِ لنا الدليل الشرعي على تحريم ذلك الشيء ومنعه، هنا فقط يمكننا الاقتناع، لأن الشريعة قانونٌ إلهي وحين يرِدُ النص فلا جدال ولا قياس ولا رأي، وهذا المبدأ مستقرٌّ في عقيدة كل مسلم ومسلمة.

فإذا أتينا إلى مسألة الموسيقى والغناء، وجدْنا عَجَبًا لا ينقضي، فمعظم الفقهاء المذهبيِّينَ حرَّموا الموسيقى تحريمًا قاطعًا واعتبروها بابًا من أبواب الفاحشة وخطرًا على قلب المسلم، وبذرةً من بذور النفاق ورسالة من رسائل الزنى وأضْفَوْا عليها كلَّ الأوصاف القبيحة والنعوت المُشينة، وسردوا لنا أحاديث تؤيد ما يذهبون إليه، وتفاسيرَ لآياتٍ قرآنيةٍ غريبةً عجيبةً، وقالوا لنا: هذه أفعال الفُسَّاق وأهل المُجون!

أقول: لستُ بصدد النقاش الفقهي والجدال العلمي لمسألة الموسيقى، ولكن على كل قارئ أن يعيَ جيدًا أن الغناء والطرب أمور قديمة قِدَم الإنسان، عتيقةٌ ككل الحضارات الإنسانية شرقًا وغربًا، لم تَخْلُ أمة من الأمم إلا ولها معازفها الخاصة وأغانيها القومية التي تستحضر بها أمجادها وأيامها وانتصاراتها وإخفاقاتِها، والغناء الذي هو "تلحين الكلام الشِّعْريِّ بأوزان محددة" ظاهرة قديمة جدًّا، والموسيقى التي هي "الأصوات المتناسقة على شكل محدد وبآلات محددة" أيضًا قديمة قِدَم الغناء بحد ذاته.

من يُحرِّم الموسيقى والغناء بعيدٌ كلَّ البعد عن روح الشريعة وعن فقه "الإنسان" وفقه "الحياة"، وحقيقةً لا أدري كيف لهؤلاء الجُفاة الجافِّينَ والجافِين عن معاني الجمال أن يعبُدوا رَبًّا وصف نفسه بالجمال؟

وهذا المَلْحَظ التاريخي – الحضاري راجعٌ في جوهره إلى آية قرآنية بيَّن الله فيها أن كلَّ ما في الأرض هو مسخَّرٌ من أجل الإنسان، وما علينا إلا استغلال ما أنعم الله به علينا من مَوارد الطبيعة وأجزائها، هذه الآية هي قوله تعالى: "هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُم مَّا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا"، وهذا الأسلوب عند الأصوليين يسمى "أسلوب الامتنان" وهو يُفيد الإباحة عندهم، ويُفيد أمرا آخر أيضا: أن هذا المباح الذي جاء عن طريق الامتنان لا يمكن نسخُهُ فيما بعد، وهذا أمر يعرفه طلاب مادة أصول الفقه جيدًا، لذا فكل الآلات والأصوات هي أشياء خلقها الله لنا وتدخل في نص الآية السابقة دخولا قطعيًّا عند جمهور أصول الفقه ودخولا ظنِّيًّا عند بعض الأصوليين، فالجميع يُسلِّمُ بذلك .. وهنا مكمن المعضلة .. والسؤال الذي يُطرح عليهم: كيف تدَّعون تحريم شيءٍ أحلَّهُ الله لنا عن طريق الامتنان؟

كانت جزيرة العرب تحتضن أقواما يعشقون إنشاد الشِّعْر حدَّ الجنون، ويهلهلون به على التلال ورؤوس الجبال، يُقيمون أسواقا لتناشد الأشعار وإعطاء الجوائز لأفضل شاعر أو شاعرة، حياتهم ومماتهم ومُصبَحُهم ومُمساهم ومأكلهم ومَشربهم وسِلمُهم وحربهم كلها أشعار وحُداء وأراجيز، فأشرقت عليهم رسالة الإسلام وجاريتان من أصحاب السيدة عائشة -عليه السلام- تضربان عندها بالدُّفِّ وتُغنِّيان كما كانتا تفعلان في الجاهلية تمامًا، فيدخل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فيسمع غناءهما، فتقول السيدة عائشة في نفسها: هذا يومٌ ينزل الله فيه أمرًا في الغناء، تعني: إما بمنعه أو بإباحته.

فحين دخل النبي -عليه السلام- ولا زالتا تغنِّيان وتضربان الدُّفَّ، ثم اتكأ في إحدى الغرف ولم ينهَهما عن شيء، ودخل سيدنا أبو بكر الصِّدِّيق فانتهرهما وقال: "أمزمارَ الشيطان في بيت رسول الله؟ !"، فماذا كان ردُّ رسول الله؟ هل وافقه أم ماذا؟ في نص الحديث أن النبي -عليه السلام- نهى أبا بكر عن منعه للجاريتين من الغناء والضرب بالدُّفِّ، وقال له: "لكل أمة عيد، وهذا عيدُنا"، وكان ذلك في أحد العيدين، والحديث مرويٌّ في صحيح البخاري وله رواية مفصَّلةٌ في كتاب "الدلائل على معاني الحديث بالشاهد والمَثَل" للإمام قاسم بن ثابت السرقسطي (وُلد: 255هـ/869م – توفي: 302هـ/915م).

سيطول الكلام لو سردتُّ حُجج إباحة الموسيقى والغناء، ولا أقول: إباحة بالمعنى الأصولي البَحْت، لأني حينها سأحُطُّ من قيمة هذا الفن العظيم، وإنما أقصد أنَّ من يُحرِّم الموسيقى والغناء بعيدٌ كلَّ البعد عن روح الشريعة وعن فقه "الإنسان" وفقه "الحياة"، وحقيقةً لا أدري كيف لهؤلاء الجُفاة الجافِّينَ والجافِين عن معاني الجمال أن يعبُدوا رَبًّا وصف نفسه بالجمال؟ وهل الكون إلا آثار صنعة هذا الإله الجميل؟ أو ليست الطبيعة كلها إلا صوتًا جميلًا ونغمة رائعة؟

في الأخير؛ أنصح القُرَّاء أن يطلعوا على مناقشة الإمام ابن حزم الأندلسي لأدلة من حرَّم الموسيقى والغناء وكيف أنها أدلة واهية لا تمُتُّ لروح التشريع بأي صلة، ومن اطَّلع على تراث علماء الأندلس سيعلم علم يقينٍ أن مجالس الغناء والحفلات الموسيقية كانت منتشرة وكان يحضُرها الفقهاء والقضاة وأعيان الناس ويستمتعون بأغاني زرياب، ويرجعون إلى وظائفهم الشرعية دون أن يؤثر ذلك في ديانتهم وصلاحهم وتقواهم.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.