شعار قسم مدونات

المصارعة الحرة.. عالمنا المصغر

WWE wrestler Bin Wang of China puts a headlock on another development wrestler during ring training at the WWE Performance Center in Azalea Park, Florida, December 1, 2016. REUTERS/Scott Audette
تتربع شركة المصارعة العالمية الترفيهية (World Wrestling Entertainment) والتي تُعرف اختصاراً بـ (WWE) على قمة رياضات القتال الاستعراضية. ومعنى أنّها ترفيهية استعراضية؛ أي أنّ هناك سيناريوهات معدة مسبقاً تضبط العلاقة بين المصارعين على الشاشة، وتنسج القصص بينهم داخل الحلبة أمام عدسات الكاميرات فيما يُعرف بـ (Kayfabe). فيُصنع البطل القوي المحبوب، والمصارع الطيب الخلوق، وهناك الشرير الماكر، والبربري العنيف… إلخ من الشخصيات التي لا تمت للواقع بصلة.

وإحدى الركائز الرئيسة التي تعتمد عليها الشركة في تعزيز وترسيخ هذه الشخصيات في الأذهان؛ هي المعلقون (الإعلام)، حيث يتم اختيار كلماتهم بعناية ويكونون عادة هم أول من يلصق الصفات بالمصارعين: فيصفون راندي أورتن بالماكر، وسيث رولنز بالمهندس، وتربل اتش بالقاتل الذهني.. إلخ، وتتبع الشركة عدة أساليب لإقناع الجماهير بهذا السيناريو وهذه الصفات؛ ومنها "تكييف الواقع ليتناسب مع الصفات المذكورة بالسيناريو والمراد أن يصدقها الجمهور"؛ فترى المصارع القوي (أو الذي يراد له أن يظهر بمظهر القوي) يفوز على أربعة أو خمسة مصارعين دفعة واحدة. وأسلوب آخر هو التلاعب بتاريخ اللاعب (المصارع) حسب متطلبات السيناريو، فإذا أراد كاتبو السيناريو جعل هذا المصارع شريراً مكروهاً؛ أوعزوا لفريق المعلقين بألا يذكروا أي شيء من ماضي هذا المصارع حينما كان محبوباً (حسب السيناريو آن ذاك). وإن خالف أحدهم الدور المرسوم له (المصارع سي أم بانك مثلاً) فإنه يُمحى من التاريخ كأن لم يكن (مهما كانت إنجازاته).

فرغم أنّه ليس هناك أدنى علاقة بين ما يراه المشاهدون على الشاشة، وبين العلاقة الحقيقية بين اللاعبين؛ إلا أنّ الجماهير ما تلبث تكرر هذه الصفات كالببغاوات، وتحب وتكره بلا أدنى تفكير، وإنما تنساق خلف سيناريوهات تخلق واقعاً مزيفاً وتهدف لاستنزاف أموالهم، بما يحقق مصالح "أصحاب الشركة".

بعد حادثة موت الملاكم
بعد حادثة موت الملاكم "محمد علي" الذي كان خير صورة عن الإسلام في الغرب، حدث تفجير في ملهى ليلي وكالعادة، المنفذ هو ذاك المسلم المتطرف الشرير

إنّ ما يحدث في عالمنا "الحقيقي" و"واقعنا" المُعاش، لا يختلف كثيراً عمّا يحدث في WWE. فداعش التي تهدد أمن الكوكب والتي أُظهرت بقوة توازي قوة تحالفات دولية –ويبدو أن دورها شارف على الانتهاء-، الجنود الأمريكيون البواسل حماة البشرية وصانعو السلام، حرب العراق وأسلحة الدمار الشامل، أحداث الحادي عشر من سبتمبر وتبعاتها، والحركات الأفغانية التي كانت حركات تحرر حينما حاربت الاتحاد السوفييتي ومن ثمّ أضحت إرهابية حينما حاربت الولايات المتحدة.

واقع مزيف وسيناريوهات معدة بعناية، وممثلون بارعون، وإعلام يحدد من البطل ومن الشرير، يتحكم بالجماهير، ويبقى الهدف الأساسي هو تحقيق مصالح "أصحاب الشركة"

لا يذكر الإعلام شيئاً عن أنّ الولايات المتحدة الأمريكية -ولمحاربة الدب الروسي- كانت أحد أكبر داعمي وممولي الحركات الأفغانية -والتي تمخض عنها ما يُعرف اليوم بـ"طالبان" و"القاعدة"-. ولا يلتفت أحد لأي اعترافات أو شهادات أو تسريبات تُظهر تورط الولايات المتحدة بتدبير أحداث الحادي عشر من سبتمبر.

سيناريوهات معدّة -بمشاركة كل أطراف السيناريو أو بعضها- وإعلام يوجه الجماهير ويصنع واقعاً موازياً فيما يُسمى بـ فوق الواقع (Hyper Reality). فكما أشار محمد علي فرح في كتابه "صناعة الواقع- الإعلام وضبط المجتمع"؛ فإنَّ المفكر الفرنسي "جان بودريار" قد طرح فكرة "فوق الواقع" في كتابه (Simulacra and Simulation). حيث إن "فوق الواقع" هو عدم القدرة على تمييز الواقع من محاكاة الواقع، وذلك بعمل (Simulacrum) أي نسخة مزيفة لا أصل لها، حيث تم التلاعب بالعلاقة بين الدال والمدلول.

ولتوضيح الدال والمدلول؛ فلنأخذ الدال وهو الصوت "قلم"، فيكون المدلول تلك الأداة التي نستخدمها للكتابة، وهنا يقول عالم اللغة "فرديناند دي سوسير" أحد مؤسسي علم الإشارات (semiology) أنّ العلاقة بين الدال والمدلول علاقة اعتباطية، فمثلاً كلمة "إرهاب" (الدال) لا تحمل أي مدلول سوى الصورة الذهنية لكلمة إرهاب، حتى إنّ الإرهاب ليس له أي تعريف واضح في القوانين الدولية، فيأتي دور الإعلام للتلاعب بالمسافة بين الدال والمدلول والعلاقة بينهما بحيث يُظهر الإعلام المدلول لكلمة إرهاب بأنه عنف، فتفجير، ومن ثم لحية، وأخيراً صبغ الإسلام ككل بالإرهاب.

ولإضفاء بعض الواقعية على "فوق الواقع" هذا، لا مانع من بعض التفجيرات في بعض المدن الرئيسية كلندن وباريس. حيث يتم "تكييف الواقع ليتناسب مع الصفات المذكورة بالسيناريو والمراد أن يصدقها الجمهور". كما ويجدر التذكير هنا بحادثة موت الملاكم المسلم "محمد علي" -والذي كان خير صورة عن الإسلام في الغرب- حيث وبعد موته بأيام حدث تفجير في ملهى ليلي وكالعادة، المنفذ هو ذاك المسلم المتطرف الشرير. فلا يجب أن تتغير تلك الصورة عن الإسلام والمسلم الإرهابي ولا يجب أن يغير أحد في سيناريوهات هذا الواقع الموازي.

واقع مزيف وسيناريوهات معدة بعناية، وممثلون بارعون، وإعلام يحدد من البطل ومن الشرير، يتحكم بالجماهير، ويبقى الهدف الأساسي هو تحقيق مصالح "أصحاب الشركة".

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.