شعار قسم مدونات

أراكان في رثاء أبي البقاء

مدونات - الروهينغا ميانمار أركان لاجئين لاجئ لاجئي

من كلِّ شتاتِ الأرضِ جمّع الإسلامُ أهله وألّفَ بين قلوبهم، لا على أسسٍ عرقيةٍ أو قوميّة، بل على أسسٍ عقديةٍ تجاوزت الألسنَ والألوان والأوطان. كما علّمهم أنّهم كالبنيان يَشدُّ بعضُه بعضاً تواداً وتراحماً، وكالجسدِ الواحدِ يُسهِرهُ ألمُ أحدِ أعضائهِ ويُمرضه. بذلك جعل الدينُ الحنيفُ من أهلهِ أشداءَ على الكفارِ، رحماء بينهم.
 
فكانت الأمةُ المسلمةُ بذلك مرصوصةَ الصفِّ، مهابةَ الجنابِ، سريعةَ الوثابِ: إذا عدى عادٍ على بعضها، تحرّك جيشها حتى يصير أوله عند عدوّها وآخره عندها. وليت شعري كيف لا يخجلُ القلمُ أن يخطّ اسمَ المعتصمِ والأمّةُ اليومَ تتحسّسُ مفاصلها فإذا بها تدقُّ في كلّ مفصلٍ، وتحاولُ أن تضمّد جراحاتها فإذا بها ينكأ لها كلّ جرح، وأهلها قد هتّكت كلّ أستار حرمتهم في كلّ قاع، وأحلَّت دماؤهم لكلّ من تعطَّشها، وصارت كرامتهم في مزاد النخاسةَ دونَ ثمن.
 

يا من لذلةِ قومٍ بعدَ عزِّهمُ أحال حالهمْ جورٌ وطُغيانُ
لمثل هذا يذوب القلبُ من كمدٍ إن كان في القلبِ إسلامٌ وإيمانُ

أما أرَكان، فمأساتها مأساةُ أمةٍ تغشّاها الهوان؛ فأنجبت صمتاً مطبقاً، وعاراً مغدقاً. فقد تابعت الأمة وحكامها المجازر المتكررة بحق مسلمي بورما على الشاشات وفي وسائل الإعلام، فهل تحس منهم من أحد أو تسمع لهم ركزاً؟ 

 
فلا تبرح المخيلة تستذكر صور المستضعفين والخوف مرسومٌ على وجوههم الشّاحبة، وأثرُ الحرمان بارزٌ في تجوفات أجسادهم النحيلة وملابسهم البسيطة. صورٌ شاحبةٌ وخلفيتها حرائق وقودها مساكنهم وما يملكون من خشاش الحياة، وحريقٌ آخر يتَّقدُ في صدورهم من خذلان القريب والبعيد من أمتهم.
 
هكذا صمت حكّامنا وما صمتهم عنا بغريب، فلا قضية فلسطين أولى القضايا ولا العراق آخرها، غير أنّا هذه المرة لم نسمع منهم حتى التّنديد والشّجب المعتادين، فقد انشغلوا عن البرميين المسلمين بتعزية ضحايا الإعصار الأميركيين، حتى تنافسوا على من يكون الأسرعَ نجدةً والأكثرَ عطاءً.
 
وأما علماؤنا، فمنهم من لا يملك رخصة الكلام في غير ما يهوى النظام، فأشغله تبريره للحاكم أقواله وفعاله. ومنهم من بحَّ صوته من الخطاب والنّداء في أمّة لا تملك قوْتها ولا قرارها. ومنهم من لم يعرف بعد ما القضية، فذاك دفن رأسه في كتب التّراث، فلا يكاد يفقه شيئاً إذا رفع رأسه عنها.
 
وأما الشعوب فعذرها مآسيها، فأنّى لغريقٍ أن ينقذ الغرقى. وكأنّه لم يعد للروهينغا إلا رثاءٌ كرثاءِ أبي البقاء الرندي في الأندلس 
 

 
أعندكم نبأٌ من أهلِ أندلسٍ
فقد سرى بحديثِ القومِ رُكبانُ؟

كم يستغيث بنا المستضعفون وهم
قتلى وأسرى فما يهتز إنسان؟

ماذا التقاُطع في الإسلام بينكمُ
وأنتمْ يا عبادَ الله إخوانُ؟

ألا نفوسٌ أبياتٌ لها هممٌ
أما على الخيرِ أنصارٌ وأعوانُ

يا من لذلةِ قومٍ بعدَ عزِّهمُ
أحال حالهمْ جورٌ وطُغيانُ

لمثل هذا يذوب القلبُ من كمدٍ
إن كان في القلبِ إسلامٌ وإيمانُ

 
أبدلْ (أندلس) ب(أرَكان) في شعر أبي البقاء، ثم أعد قراءته لتعرف ما أشبه الحال بالحال، وما أشدَّ ألمَ العجز، وما أقسى أن يدوّن اسمك في سجلّ المتخاذلين، فلا تملك سوى تلاوة أبيات الرثاء على أمة من الناس تحتضر.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.