شعار قسم مدونات

أصنام العسكر.. سر البسطار عند خرازه الأول

blogs - حذاء عسكري
لا شكّ أن الغاية المنشودة من تشكيل أي جيش في العالم هي حماية الأمة وحراسة حدودها من أيّ تعدٍّ خارجي والذّودُ عن حياضها برا وبحرا وجوا فالجيوش هي حِرْزُ الشعوب وسِرُّ البقاء للأمم عبر التاريخ فهي الحامية الذّائدة المدافعة وهي من عجنت تراب الأرض بدمائها لتبقى أرضها فوّاحة برائحة الحرية والعزة والكرامة وهي من تبذل الغالي والرخيص فداء لأمتها، لكننا لو نظرنا إلى جيوش أمتنا العربية في الوقت الحاضر نظرة المراقب للعبة الشطرنج سنكتشف بقليل من التمعّن وكثير من الأسى أنّ جُلَّ جيوشنا العربية ليست سوى ظاهرة بِسْطار سواءً في عيون محبيه ومؤيديه أو في عيون المسحوقين بكعبه من الشعوب، ففي الجانب الأول ترى شعوبا مزّق أشلائها وطئ هذا البِسْطار وزاد في سحقها بكعبه حتى بلغ بها الحال أن تفر من بطشه وسطوته لترمي بنفسها في بحار أوربا أملاً في أن يُخطأها الغرق لتنقذ نفسها من الموت سحقا بعد أن دمر البِسْطار البلاد وشرّد العباد، وفي الجانب الآخر ترى شعوباً تخلّت عن انسانيّتها وثقافاتها ومورثها الحضاري وكل أديانها لتصنع من البسطار وثناً تعبده وتُصلي تحت ظله صُبْح مساءْ، فهو المخلّص والمنقذ وهو الملاذ والأمان في عيونها وأضحى يُقبَّل ويُحْضَن وتُضْرَب له التماثيل وتقام في كنفه الأفراح والليالي الملاح.

وحتى نستوعب ظاهرة البِسْطار العربي علينا أولا أن نتعرف إلى خَرّازه الأوّل فهو من خاط جلده وسواه وحاكه وطلاه وسنكون أغبياء لو أنكرنا للحظة أنّ صانع جُلّ البساطير العربية هو ذاته الخرّاز الغرْبي الحاذق الماهر فبعد أن ثارت الشعوب على الاستعمار وأرغمته على الانسحاب قرّر أن يترك قدماً له في معظم البلدان التي خرج منها، ولضمان بقاء هذه القدم وسلامتها كان عليه أن يصنع لها بسطاراً طلبا قويا متينا ويكفيه بعد خروجه أن يحرك قدمه يمينا وشمالا ليدمر البلد فوق رؤوس أصحابها ويسحق بها كل من يفكر بالثورة أو الاعتراض مرة أخرى من الشعوب العربية، ولا مانع لديه أن يرفع قدمه قليلا ليُظلِّل بها من اختار الفيْء بظلها ورسم الشمس والغيوم والسماء الزرقاء على قفى نعلها ليعيش سعادته الأبدية وأمجاده وعزه في كنفها.

كتب على حيطان مزارعه "احذروا هذه منابع الإرهاب"، ومن ثم جيّش الجيوش وطير أحدث الطائرات وحرك أعظم البوارج لمحاربة وتدمير كل شيء يحيط بمزارعه الخصبة ماعدا الإرهاب وكيف يحاربه؟

وبالطبع كانت ثورات الربيع العربي الاختبار الأقسى لأقدام الاستعمار فبالرّغم من سعاره وهو يهوي بها على الشعوب العربية ويطحن عظام الثائرين عليه وعليها، تمكن الثوار من بتر بعضها تلك التي أصابها الشلل ولم تعد قادرة على أداء وظيفتها بالشكل الأمثل فسارع إلى نزع بسطاره منها وإلباسه لأقدام جديدة فتيه كانت أشد وأعتى وأسحق من سابقاتها وفي بلدان أخرى وقبل أن يتم بتر أقدامه بقليل وتُحرق بساطيرها سارع إلى تطبيبها وترميمها وإرسال المغيثين لها فقد أدرك أنها لطالما كانت القدم المخلصة الوفية ومهما بحث عن بديل لها ستظل الأسحق والأوفى وحتى لو تمزق بسطارها وظهرت الأصابع القذرة من داخله فالخرّاز الغربي دائما مستعد لترقيعه وحياكته ولما لا؟…فالاستعمار في النهاية لا يدفع شيئا من جيبه ولا مانع لديه من أن يتخلى عن قدر قليل من الثروات الجمة التي تجنيها له أذرعه وأقدامه من مقدرات الشعوب وكد يمينها وعرق جبينها وخضاب دمائها.

ولن يكون صعبا على الإعلام الغربي الخبير المتمرس أن يحيل الفيل إلى نملة وحبة القمح إلى دجاجة، فإذا بانت أنياب الذئب ملوثة بالدماء سارع إلى رسها ضواحكا تفيض حبورا وطيبة، وإذا اكتظّت الأرض بجثث الضحايا الأبرياء صورها ضواريا جبارة كانت تقتات على دماء الأطفال وقد أهلكتها قوى الطبيعة بعد أن طال بها الجوع، ولا ينكر أحد أن إعلام الغرب أقوى من كل البساطير العربية ولكن رغم سطوته وقدراته الكبيرة يبقى لكل دوره في مكانه وزمانه.

ولما كان الربيع العربي فوّاحا بعطور الحرية وشذا الورود الزكية كان على الاستعمار أن يعكر هذا الأريج الجميل، فشيد مزارعا كبيرة وأدار عليها كل أنابيب القاذورات العالمية لتكون مستنقعات تعجّ بكل أنواع الأمراض وتفوح بأقذر الروائح وتفرّخ كل أنواع الحشرات القاتلة، وكتب على حيطان مزارعه "احذروا هذه منابع الإرهاب"، ومن ثم جيّش الجيوش وطير أحدث الطائرات وحرك أعظم البوارج لمحاربة وتدمير كل شيء يحيط بمزارعه الخصبة ماعدا الإرهاب وكيف يحاربه؟ فهل سمعتم من قبل بصانع أصنام استفاق ذات يوم ليكسرها ويخسر المهنة التي يعتاش منها؟

ولا تستغربوا أن ينفق الغرب المليارات بزعمه محاربة تلك المزارع فتكلفة بناء المزرعة الواحدة تساوي آلاف الأضعاف المضاعفة مما يجنيه من الأموال التي تجمع بحجة مكافحتها، زد على ذلك ما يضع يده عليه من خيرات ومقدرات الشعوب العربية بنفس الحجة.

لن نحلم يوما بأن نتحرر من سلطة الاستعمار وسطوته إذا لم نصنع بساطيرنا العسكرية بأنفسنا وإذا لم ننزلها من على رؤوس عشاقها ونكسر أصنامها لننتعلها في مكانها الصحيح ألا وهو أقدامنا وعند ذلك بدل أن تسحقنا وتطحن عظامنا وتدمر أوطاننا وتكتسي نعالها بحمرة دمائنا تكون سلاحا لنا ندوس به كل من يفكر أن يتعدى علينا ويتجرّأ على حدودنا ولكن مع كل هذه الغوغاء وبكل هذه الحشود من عبدة البساطير هيهات.. هيهات أن يكون لنا ذلك.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.