شعار قسم مدونات

عالم من الأحلام.. عندما كنت طفلا

مدونات - طفل لعب طفولة

عَوداً إلى الزّمن الجميل، إلى تلك المرحلة العمرية التي تُسمّى "الطّفولة"، أذْكُرها كما أذْكرُ الأمس، أذْكرُ البراءة والطُّهر الذي كنّا عليه، خيالٌ خصْب، طُموحاتٌ بريئة، أفكارٌ لطيفة، روحٌ سامية، وقلبٌ نقيّ.

 
أعترفُ أنّني كنتُ من عُشّاق الرّسوم المُتحركة آنذاك، لكنّي لم أكنْ أُشاهد كلّ ما هبّ ودبّ منها، بل كنتُ انتقائياً إلى حدٍ كبير، أختار منها ما يلذّ لي، وما أجد فيه القصّة الجميلة والمعنى الرائق. لقد كانتْ تعني ليَ الكثير، لقد كانتْ عالماً آخر بالنّسبة لي، أجد فيه المُتعة الممزوجة بالخيال، أستقي منها العِبر، وأطلب منها المزيد.

 
بلغ تعلّقي بها غايته، حيثُ أذْكُر يوماً أنّني نِمتُ بعد أنْ شاهدتُ الحلقة الأخيرة من أحد الرسوم المتحركة المفضّلة لديّ، إلّا أنّ تلك الحلقة لمْ تكنْ بالمستوى المطلوب، حيثُ بَقِيَتْ أُمورٌ لمْ تنتهِ بعد، وأهمّها أنّ ذلك الطّفل الذي كان يفتقدُ والدَه مُنذ الحلقة الأولى إلى الأخيرة لمْ يلْقه البتّة، على الرّغم من أنّه لمْ يكنْ يُفارق خياله وأحلامه!

  

لمْ أكنْ أُدرك أنّني أثناء نومي سأُشاهد حلقةً لمْ ولنْ يُشاهدها أحدٌ غيري، حيثُ كانتْ حلقةً من نسْج خيالي، حدث فيها كلّ الذي أردته أنْ يحدث!

 

كنتُ أشعر في قرارة نفسي أنّ الكبار لا يُدركون ولا يفهمون شيئاً عن هذا العالم الجميل، الذي لمْ يكونوا يَروه إلّا شيئاً لا قيمة له، ولسان حالهم يقول "ما لنا ولهذه التّرهات السّخيفة!"، ولكنّي كنتُ أراه أكبر بكثير ممّا يُمكن لهؤلاء الكبار تخيّله، مشفقاً عليهم أنْ لا يستطيعون التّمتع بما أتمتع به.

 
أكتبُ الآن وأنا على مشارف العشرين من العُمر، مضتْ مدّة طويلة لمْ أُشاهد شيئاً من تلك الرّسوم، ولكنْ ما هي إلّا أنْ تمرّ بي أُغنيةٌ منها إلّا وتستجيش المشاعر، وتنادي بي الأشواق، ويأخذني الخيال إلى ماضٍ جميل، حيث الطّفولة ولا شيء غير الطّفولة!

 
أنظر لمن حولي ممّن هم أطفال الأمس وشباب اليوم وشيوخ الغد، فأشعر أنّه ثمة شيءٌ ما قد تغيّر، ولكن حين أستمع لكلامهم وما يستمعون له ويُشاهدونه أُصْبِحُ على يقينٍ بأنّ شُعوري كان صحيحاً! كأنّي بلسان حالهم يُنشدني "ولقد كنتَ مع الصّبا أهدى سبيلاً فمالك بعد شيبك قد نكثتَ".

 

يُعاني شباب ومراهقي اليوم من فراغٍ وجوعٍ عاطفيين، يَهيمون على وجوههم في كلّ سبيل، مُحاولين ملئ هذا الفراغ وإشباع هذا الجوع
يُعاني شباب ومراهقي اليوم من فراغٍ وجوعٍ عاطفيين، يَهيمون على وجوههم في كلّ سبيل، مُحاولين ملئ هذا الفراغ وإشباع هذا الجوع
 

إنْ قُمنا بعقد مقارنةٍ بين الذي كنّا نشاهده ونحن أطفال، وبين الذي يستمع له ويشاهده شباب اليوم، نرَ البَون الشاسع وبُعد الشُّقة بين الأمرين، فالذي كنّا نشاهده في طفولتنا يغرس الكثير من القيم النبيلة والمعاني الجميلة كالصّدق، والأمانة، والوفاء، والإخلاص، ومحبّة الخير، ومساعدة الآخرين، والبطولة، والعزيمة، والهمّة، والتضحية، والصّبر، والمثابرة، والتصميم…إلخ، في الحقيقة لا يمكن حصر تلك القيم السّامية التي تعلمناها منذ الطّفولة، ولكنْ حين تُشاهد فئة الشباب اليوم -إلّا من رحم الله- تجد أنّ الحياة أغرَتهم وأغرّتهم، وتَخَطَّفَهُم الطّير، وَهَوَتْ بهم الرّيح في مكانٍ سحيق!

 
عندما تستمع إلى أغاني الشّباب اليوم للأسف تجد السُّخف بعينه، فالغالبيّة السّاحقة منها لا تتحدث إلّا عن الحُبّ والعِشق وتوصيفاتٍ لجسم تلك المعشوقة، ممشوقة القِوام، مسبّلة الشّعر، بيضاء الوجنتين، وردية الشفتين، والشّوق إليها، فتصبح هي شمس العالم، يضيء بها، ويُظلم بغيرها، غارسةً ومُنمّيةً عند الشّباب النّظر إلى المرأة والحكم عليها من القشرة الخارجية لها ومصوّرةً لدورها في الحياة كأداة للمُتعة!

 
لا يقف الأمر عند الأغاني فقط بل يتعدى إلى الأفلام والمسلسلات ذات الخمسين والمائة حلقة، شُغلها الشّاغل تحريك غرائز الشّباب، وإثارة شهواتهم وعواطفهم، متدرجةً بهم إلى مُستنقعات الرذيلة، ومهاوي الرّدى، وسوء العاقبة غدا، حاجبةً عنهم غاياتٍ سامية، ومقاصد عُليا، كان على الشّباب أنْ يصرفوا حياتهم بها وإليها.

 
يُعاني شباب ومراهقي اليوم من فراغٍ وجوعٍ عاطفيين، يَهيمون على وجوههم في كلّ سبيل، مُحاولين ملئ هذا الفراغ وإشباع هذا الجوع، في الأغاني والأفلام والمسلسلات وفي وسائل التواصل الاجتماعي التي أصبحنا نلمس فيها هذا الأمر لمس اليد ونراه رأي العين، وحتى في الجامعات التي هي في الأصل يجب أن تكون صرحاً علمياً تُنْهَلُ منه المعرفة، أصبحتْ ملاذاً للكثير من الشّباب لإشباع تلك العواطف والرّغبات.

 

أعلم علم يقين أنّ الكمال لله وحده، ولكنّي أعلم أيضاً أنّ السّعي الدؤوب نحو الكمال من أعظم ما على الإنسان الاشتغال به

مُنذ أنْ رَمَقَ الطّفل وجه هذه الدّنيا يَلُوح لناظره، كان على الأبوين لزاماً أنْ يُحيطاه بكلّ معاني العطف والحُبّ والحنان والرّعاية، إلى أنْ يَكبُر الطّفل فيصبح ذلك الشّاب الممتلئ من الدّاخل أو تلك الفتاة التي هي كذلك، ولكنّ العمل الآن لا يقتصر على الأب وحده فالأُمّ تعمل أيضاً ممّا جعل العلاقة بين الآباء والأمّهات مع أبنائهم علاقة ركيكة جداً إنْ لمْ تكنْ معدومة، فحين ينشغل الأبوان بالعمل فلا يجدان وقتاً للجلوس مع أبنائهم الصّغار تحدث المُصيبة، فمَنْ الذي سَيَبُثّ في نفس الطّفل العطف الذي يحتاجه كحاجته للطّعام والشّراب، لينمو نفسياً بشكلٍ طبيعيٍ سويّ، وَمَنْ الذي سيغرس فيه القيم والمبادئ والأخلاق والمعاني النّبيلة التي تُعَدّ التُرجمان المفصح عن إنسانيتنا.

 
كلّ ذلك من شأنه أنْ يُنتِج لنا شباباً مُتدهوراً من النواحي الأخلاقية والتربوية وعلاوة على ذلك فارغٌ عاطفياً، بدل أنْ يُنتِج لنا شباباً أسوياء قادرين على إكمال حياتهم على أكمل وجه، وعلى أتم ما يُرام.

 

وفي الشّباب هناك عواطفٌ من نوعٍ آخر حيث تكون متبادلة بين الجنسين تحتاج إلى إشباع يكون بالزّواج فيكون استقرارٌ بعد استقرار، فتنتج لدى الشاب والفتاة الطّمأنينة التي كانتْ نِتاج عواطف مكتملة المعالم مشبعة، وتلك العواطف ما هي إلا مزيج من المودّة والرّحمة. إنّ النّظرة المُشرقة التي أحلم بها هو ذلك المجتمع الذي تسوده الطّمأنينة والاستقرار، وتغشاه الرّحمة والمودّة، تنتشر بين ثناياه الفضيلة وتعلو، وتختفي منه الرذيلة وتغدو حبيسة القبو، فبعد كلّ ذلك تتفجر ينابيع الخير والعطاء والبناء والإنجاز.

 
أعلم علم يقين أنّ الكمال لله وحده، ولكنّي أعلم أيضاً أنّ السّعي الدؤوب نحو الكمال من أعظم ما على الإنسان الاشتغال به؛ ليكون صالحاً في نفسه، ومن ثم مصلحاً في مجتمعه وقومه وأمّته، يحمل رسالةً كونيةً كما الإسلام، مُخاطباً العالمين. 

 
لقد طالتْ التدوينة -كالعادة- لما في النّفس من الكثير من المشاعر والآمال والأحلام التي تَودّ التّكلم والتّعبير عن نفسها، في النّهاية تلك أحلامُ الطّفولة، لا تسخروا منها، فهي من ستنقذ البشرية في يومٍ من الأيام.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.